الوضع السوري المأساوي، وازدياد عدد القتلى اليومي، وارتفاع وتيرة التدمير، وتنوع أساليب القتل الوحشي، أحوال تشير إلى أن الطرفين الرئيسيين القادرين على فرض الحل، ووضع نهايةٍ للحرب السورية، لم يتوصلا إلى اتفاقٍ لتقاسم المصالح بعد.
لا يخفى على أحدٍ أن تحوُّل الثورة السورية التي اندلعت سلميةً ضد طغيان عائلة الأسد وفسادها واستبدادها، وكذا المافيا الأمنية الاقتصادية التي تقودها إلى حربٍ طاحنةٍ، تكاد تودي بسورية وشعبها، كان نتاج مصالح إقليمية ودولية متناقضة، وليس نتاج رغبة الشعب السوري في الدمار والموت، على الرغم مما تتحمله المعارضة السورية من مسؤوليةٍ عمّا حصل نتيجة سذاجتها السياسية، وافتقادها الخبرة الكافية لمواجهة قضيةٍ بهذا العمق والتعقيد.
الطرفان الرئيسيان في الصراع على سورية اليوم هما، من دون منازع، روسيا والولايات المتحدة الأميركية، حيث تخوض روسيا وحليفها الإيراني الحرب السورية بشكل مباشر، ضمن تحالف عسكري يضم إيران وحرسها الثوري والمليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والأفغانية التابعة لها، قواتٍ تقاتل على الأرض (نتيجة افتقاد مافيا الأسد قواتٍ بريةً ودعماً شعبياً كافياً)، وروسيا التي تقدّم التغطية الجوية، بينما تحاول الولايات المتحدة التحكّم في موازين القوى بين الحلف الإيراني الروسي وقوات المعارضة المسلحة الكثيرة والمتعدّدة الولاءات، من خلال التحكّم في تسليح هذه القوات وتمويلها، عبر حلفائها في المنطقة.
أصبح واضحاً للجميع مدى تضاؤل دور السوريين في الطرفين في هذه الحرب، وانتقال القرار، في استمرارها أو وقفها، إلى الجانبين، الروسي والأميركي، حيث أصبحت المحادثات والمشاورات حول سورية تجري بينهما، بالتشاور مع حلفاء دوليين وإقليميين لكل منهما، من دون أي وجودٍ للسوريين، سواء من نظام مافيا الأسد أو من المعارضة، تلك المحادثات التي يبدو أنها مفاوضاتٌ حول ملفاتٍ متعدّدة، عالقة بين الطرفين، تشكل سورية أحدها، وليست الملف الوحيد.
ومع ذلك، سيتطلب أي حل سياسي في سورية، بالضرورة، توافقاً دولياً، طرفاه الرئيسيان هما الولايات المتحدة وروسيا، الأمر الذي لا يبدو قريباً، على الرغم من الاجتماعات المتكرّرة بينهما، فالإدارة الأميركية التي تحزم حقائبها استعداداً للرحيل ليست في عجلة من أمرها، بل تفضّل نقل الملف، كما هو، إلى الإدارة القادمة، بينما يعتقد الروس أن الأمور عسكرياً تسير لمصلحتهم ومصلحة حلفائهم، على الرغم من تفضيلهم التوصل إلى حلٍّ مع هذه الإدارة، وليس مع خليفتها، خوفاً من التورّط تدريجياً بحرب برية أيضاً بشكل يذكّر بالتورط السوفييتي في أفغانستان.
صاحب المصلحة الوحيد في حلٍّ سريع ينقذ مصيره ومصير وطنه هو الشعب السوري، لكنه، مع الأسف، لا يملك أوراقاً كافية، تجعله قادراً على تسريع عملية التوصل إلى حلٍّ كهذا. لكن، ما الذي على السوريين فعله، لكي يسهموا في حل ينهي مأساتهم؟
على جميع الوطنيين السوريين البدء، وبسرعة، بدراسة واقعية لحال وطنهم وقضيتهم، واختيار أفضل الحلول الممكنة (أو أقلها سوءاً)، والعمل على محاولة إقناع أنفسهم، أولاً، بها، ثم محاولة جمع أكبر عدد من السوريين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية والقومية حولها، ومن ثم البدء بطرحها والتفاوض حولها مع القوى الدولية الرئيسية (روسيا والولايات المتحدة) وحشد ما أمكن من دعم شعبي و إقليمي لإقناعهما بجدواها.
هناك أمران أساسيان على الوطنيين السوريين أخذهما بالاعتبار عند التفكير في أي حل، هما: أولاً، ليس ممكناً إنجاز حل سياسي قابل للتنفيذ في سورية، من دون وضع جدول زمني مضمون التنفيذ، لرحيل بشار الأسد والمافيا الأمنية الاقتصادية التي يقودها، فبعد كل ما ارتكبت هذه المافيا من جرائم، فإن مجرد بقائها في الحياة السياسية (المقصود المافيا الحاكمة والمحدودة العدد، وليس “البعث” حزباً) سيجعل سوريين كثيرين جداً غير مطمئنين، وسيجعل بعض اليائسين والخائفين منهم عرضةً لاستغلال التنظيمات التكفيرية والفكر الطائفي، وبعض الدول التي لا مصلحة لها في استقرار سورية، ولا في دمقرطة نظامها السياسي.
ثانياً، المعارضة السياسية فاقدة الحول والقوة، كما أنه من غير الممكن أن تكون المعارضة المسلحة ذات الصبغة الإسلامية، المتشرذمة والمصطدمة فيما بينها أحياناً، بديلاً مقبولاً لا سورياً ولا إقليمياً ولا دولياً، والإصرار على طرحها بديلاً لمافيا الأسد لن يؤدي إلى تسهيل رحيل مافيا الأسد عن رقاب السوريين، بسبب انعدام ثقة شريحة واسعة جداً من السوريين بها.
لذلك كله، لابد من مرحلٍة انتقاليةٍ تقودها مجموعة حيادية (مجلس عسكري مؤقت، حكومة تكنوقراط……إلخ) قادرة على طمأنة جميع السوريين على مصيرهم ومستقبلهم، وتحظى بدعم شعبي ومساندة دولية، تمكّنها من توحيد الغالبية العظمى من السوريين ضد القوى الرافضة للديمقراطية، سواء كانت هذه هي قوى الاستبداد لمافيا الأسد وداعميها، أو تنظيمات محلية متطرفة أو قوى إقليمية راغبة بالهيمنة على سورية، من خلال السعي إلى فرض نظام سياسي يناسبها.
إن مرحلة انتقالية بضماناتٍ دوليةٍ تقنع السوريين بأنها مؤقتة فعلا، وأنها ستنتهي بالمدى المتوسط (حد أقصى ثلاث سنوات) بانتخابات حرّة تمكّنهم من اختيار شكل دولتهم ونظامهم السياسي الذي يضمن مساواتهم بالحقوق والواجبات، من دون أي تمييز على أساس الدين أو الطائفة أو الانتماء العرقي، ستكون إنقاذاً لسورية دولة موحدةً ومستقرةً ومتصالحةً مع جيرانها ضمن حدودها الدولية المعترف بها، وستحظى برضى أغلبية السوريين وتوحدهم ضد التنظيمات التكفيرية، وتجعلهم جزءاً فاعلاً من الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب.
أي حلول مطروحة لا تؤدي إلى هذه النتيجة لن تكون أكثر من إطالةٍ لمأساة السوريين، وتعميق للتهديد الموجّه إلى وحدة سورية واستقرار المنطقة.
العربي الجديد – وليد البني