كان المشهد استثنائياً في داريا السورية. آلاف من المواطنين يتم اقتلاعهم من أرضهم وبيوتهم، وترحيلهم إلى بقاع أخرى بعد حصار استمر أكثر من أربع سنوات. مشهد يقود تلقائياً إلى التفكير بسيناريوهات مماثلة عاشتها أراض عربية، ولا سيما فلسطين المحتلة، والتي لا يزال يعيش النظام السوري وحلفاؤه تحت راية تحريرها، ورسم الطريق إليها.
داريا التي سطرت، منذ بداية الثورة السورية وحتى يومها الأخير من الصمود، سقطت ضحية التهجير الممنهج الذي يتبعه النظام وحلفاؤه، باعتراف الأمم المتحدة، ضمن مخطط تأسيس ما بات يصطلح على تسميتها “سورية المفيدة”، وهو مسمى لم يعد خافياً أنه يهدف إلى رسم حدود التقسيم، وتحديد الأراضي التي يريد نظام الأسد الاحتفاظ بها ضمن أي اتفاق سياسي مرتقب، أو حتى في حال تعثر التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، وتقرّر إبقاء الوضع على ما هو عليه.
ضمن هذا السياق، لم تكن داريا الأولى، ولن تكون الأخيرة. والترانسفير الذي بدأ سابقاً من الزبداني في 2015 عبر ترحيل 225 عائلة، ها هو يتمدّد ويتوسع، ليصل إلى داريا ومن بعدها المعضمية، في إطار إفراغ الغوطة من سكانها المعارضين، وإيجاد بيئة حاضنة للنظام وحلفائه فيها ضمن المشروع “الممانع”.
كثير من الكلام يتداول عن مخططات الإحلال في المناطق المفرغة من سكانها، قد يكون في معظمه شائعات لا أساس له من الصحة. غير أن ما هو صحيح ومتأكد منه أن داريا باتت خالية، وأن لا موعد أعطي لأهلها للعودة إليها، ولا سيما بعد تسجيلات مصورة تظهر عمليات بيع أثاث المنازل التي لم يتمكن أصحابها من نقلها معهم. حال هي عملياً استنساخ للسياسة الإسرائيلية التي اعتمدت تجاه الفلسطينيين المطرودين من أراضيهم في عام 1948، حين تم اعتبار كل ما تركوه خلفهم “أملاك غائبين”، يحق لدولة الاحتلال التصرف فيها. وهو الأمر نفسه الذي سيحصل مع أراضي أهل داريا الغائبين أو المغيبين، فكلها ستكون ملكاً للأسد الذي رفعت صورته على أنقاض المدينة.
قد لا تكون هذه فقط هي الصيغة المستنسخة من تجربة الاحتلال الإسرائيلي، فالتهجير بالأساس ونقل السكان وإحلال آخرين محلهم هي عملياً ما قامت به الدولة العبرية في الفترات اللاحقة لقيامها على خلفيات دينية وعقائدية، وهو الأمر الذي يسير على هديه النظام على خلفيات مشابهة أساسها الولاء، وتأسيس كيان صافٍ سياسياً يؤمن الاستمرارية للأسد وآله.
وقبل التهجير والإحلال والمصادرة، لا يمكن تجاهل العقلية المؤسسة لهذه الممارسات، وهي أيضاً عقلية مستوحاة من الممارسات الإسرائيلية. عقلية لا تقتصر على المستوى الرسمي السوري، بل أصبحت منتشرة بين أنصاره من كل الفئات وعلى المستويات كافة، وحتى غير السوريين. فكل من هو غير موال للنظام أو لا يبجل الأسد وممانعته يستحق القتل. أمر مشابه للنظرة الإسرائيلية أو اليهودية إلى الآخرين من “الأغيار” الذين يرون أيضاً أنهم لا يستحقون الحياة. وعلى هذا الأساس كانت المجازر في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1948 إلى اليوم. غير أن الأسد وحلفاءه تمكنوا من التفوق في هذه النقطة وارتكبوا من المجازر خلال الأعوام الخمسة الماضية ما لم يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات الثماني والستين الماضية.
على الرغم من ذلك، لا يزال النظام السوري وحلفاؤه يرفعون شعار أن كل ما هو جارٍ على الأرض السورية هو في سبيل وقف محاربة إسرائيل، أو سد الطريق إلى القدس، والتي يبدو أن الوصول إليها، بحسب هذا المنطق، لن يكون إلا بعد تدمير كل المدن السورية المعارضة وتهجير سكانها.
حسام كنفاي_العربي الجديد