لنتخيّلْ حلاً في سورية يتوافق عليه الروس والأميركيون، وتساهم إيران في تنفيذه، ينص على انقلاب على العائلة الحاكمة، وتنصيب ديكتاتور يحظى فوراً بمباركة دولية عبر مجلس الأمن، وبدعم مماثل تحت يافطة مكافحة الإرهاب. ثم، يُطلب من كافة القوى المسلحة على الأراضي السورية تسليم أسلحتها للسلطة المركزية، أو اعتبارها مجموعات خارجة على القانونين المحلي والدولي، وتستمر محاربتها التي قد تستلزم سنوات أخرى بدعم أميركي وروسي وغربي، مع الضغط على الدول الداعمة لها، بعد أن أصبحت بدورها في موقع الدول الداعمة للإرهاب.
سيعني السيناريو السابق أن محصلة الثورة والصراع أتت بديكتاتور مكان الطاغية القديم، لكن هذه المرة تحت ذريعة مقبولة عالمية، هي عدم وجود أفق لإنهاء الصراع سوى وجود سلطة تتمتع بصلاحيات استثنائية، وستكون الأمثلة المصرية والليبية واليمنية حاضرة كناية عن استحالة البدء بالتحول الديموقراطي. فوق تلك الأمثلة، يتميز الوضع السوري بقدر أكبر من التشظي على الصعيدين العرقي والطائفي، ما يسمح ضمناً بتمرير استحالة تطبيق الديموقراطية وفق نموذجها الأصلي، أو حتى على النموذج التوافقي الذي لا يظهر بعيداً عن الاحتراب في العراق أو لبنان.
القسم الوحيد الذي قد ينال وضعاً خاصاً ضمن الكيان السوري الجديد هو القسم الكردي، وقد تساعد وضعية إقليم كردستان العراق على تقديم إطار مشابه للأكراد السوريين بدرجة استقلال أقلّ ربما. لكن الميزة الأساسية للأكراد التي ستمكنهم من تعزيز استقلالهم ليست، حسبما يُشيعه بعض العرب، محض انحياز غربي لهم أو شيئاً من قبيل المؤامرة، فهي تتعلق بالدرجة الأولى بوجود قوة ديكتاتورية وحيدة، غير إسلامية، مسيطرة على المناطق الكردية وتحظى بنسبة قبول جيدة من الأكراد. ميليشيات الحماية الشعبية الكردية، فضلاً عن عدم دخولها في صراع عسكري ضد النظام وحلفائه، قد تكون الأكثر قابلية للتنسيق مع الجهود الأميركية، خاصة مع تعثر الأخيرة في استقطاب متطوعين عرب “سنة” ضمن برنامج التدريب في تركيا والأردن.
على المقلب العربي “السني”، الأمر مختلف تماماً، فباستثناء سيطرة داعش على مساحة واسعة من الأراضي لا توجد سلطة أمر واقع مقبولة تفرض نفسها على الأرض وعلى المجتمع الدولي قبل المحلي. هناك العشرات من الفصائل ذات الميول والأهداف المختلفة، نسبة كبيرة منها تخضع لاعتبارات التمويل، ومهما أبدت من تنسيق عالٍ في المعارك الأخيرة يبقى التنسيق خاضعاً لاعتبارات الداعمين أكثر من خضوعه للضرورات الداخلية. هناك أيضاً تمايزات مناطقية بين الفصائل، والجهادية من بينها أثبتت قدرة أكبر على التوسع في مختلف المناطق. الجيش الحر لم يكن في أي يوم سوى تسمية مجازية لفصائل مبعثرة هنا وهناك، أما القيادات العليا التي جُرّبت من رئاسة أركان أو مجالس عسكرية فثبت أنها غير قادرة على الاضطلاع بدور إداري فضفاض حتى. بالطبع، جبهة النصرة وحلفاؤها غير مقبولين دولياً، على رغم ما يُفهم من رضى دولي عن انتصاراتهم الأخيرة، إنما ذلك يتوقف عند عتبة الضغط على النظام ومن المستبعد السماح بتثمير هذه الانتصارات مستقبلاً.
لا ينطلق خيار الإبقاء على نظام الأسد بعد نزع رأسه من أرضية أخلاقية أو حقوقية، وهو أشبه بما اعتاد السوريون على سماعه من التفاضل بين خيارين سيئين، بدءاً من شعار النظام “الأسد أو نحرق البلد” ثم “إما الأسد أو داعش”. خيار الإبقاء على النظام يعتمد وعيداً واقعياً مشابهاً، فإما نظام قوي أمنياً ينخرط في الحرب على الإرهاب أو تبقى سورية ساحة حرب وصولاً إلى استنزاف الجميع. إما سورية موحدة، حيث فقط النظام الأمني يضمن القضاء على المجموعات الإرهابية والتخلص من فوضى السلاح، أو بقاؤها لمدة قد تطول في ما دون التقسيم الرسمي الذي دونه حرب الجميع على الجميع.
مشكلة سورية أن الاستثمار في الحرب فيها أكبر مردوداً من الاستثمار في التغيير وإحلال السلام، وإذا تذكرنا أن النظام قد وضعها أصلاً في دائرة النفوذ الإيراني المطلق قبل الثورة، فإن كافة القوى المنخرطة في الحرب على النظام ليس لديها ما تخسره في الحرب. جزء لا يُستهان به من اللامبالاة الغربية تجاه سورية أنها لم تكن يوماً في دائرة النفوذ الغربي، وفي ظل انحسار الصراع العالمي على مناطق النفوذ لا تملك قيمة استراتيجية استثنائية تدفع الغرب إلى التدخل، لذا لا أمل إطلاقاً بمظلة غربية تحرض على تغيير جوهري، ومن نافل القول أن الغرب لن يتطوع بالوصاية المباشرة على سورية حتى تُنجز فيها مرحلة التحول. للغرب مصلحة وحيدة أكيدة هي ألا تنتشر الفوضى السورية بحيث تهدد الاستقرار الدولي، وألا تغنم المنظمات المتطرفة السلطة على نحو ما فعلته طالبان في أفغانستان.
إذاً، العبرة لدى دوائر القرار الغربية لم تكن يوماً في قوة أو ضعف النظام، أو في عدم قدرته على الصمود لولا الدعم الخارجي، فالأهم أنه على رغم خسائره الباهظة وتراجع سيطرته على الأراضي إلى ربع المساحة السورية، لم يتصدع من داخله، ولم تنقسم جبهة مؤيديه وتتشتت ميدانياً. بهذا المعنى فحسب، تبدو سلطة الأسد نظاماً بالمقارنة مع فصائل المعارضة المسلحة وتشكيلاتها السياسية، ويبدو كأنه الخيار الواقعي الوحيد فيما لو أُعيد تأهيله. الانتصارات أو الخسائر العسكرية الموضعية لا قيمة كبيرة لها في هذا الميزان، طالما بقيت الجبهة المقابلة للأسد غير موحدة وغير متفقة الأهداف باستثناء ما تعلنه من عزمها على إسقاط النظام.
أن يكثر الحديث عن التقسيم في الآونة الأخيرة فذلك لا يدلل على اقترابه، إلا إذا انعقدت النية على نشر الفوضى في المنطقة، وهنا أيضاً يصعب توافر حماية دولية لمشروع تقسيم سورية وحدها. الكرة لا تزال في ملعبي داعمي المعارضة وحلفاء النظام، المطلوب من المعارضة وداعميها لملمة تشتتها وإظهار “الكفاءة” لتشارك في النسخة المنقحة من النظام، والمطلوب من حلفاء النظام التضحية برأسه. جنيف جاهزة للاستقبال عندما “ينضج” الطرفان، والسلاح غير الحاسم جاهز لمن يريد مهلة قبل الوصول إليها.
سيعني السيناريو السابق أن محصلة الثورة والصراع أتت بديكتاتور مكان الطاغية القديم، لكن هذه المرة تحت ذريعة مقبولة عالمية، هي عدم وجود أفق لإنهاء الصراع سوى وجود سلطة تتمتع بصلاحيات استثنائية، وستكون الأمثلة المصرية والليبية واليمنية حاضرة كناية عن استحالة البدء بالتحول الديموقراطي. فوق تلك الأمثلة، يتميز الوضع السوري بقدر أكبر من التشظي على الصعيدين العرقي والطائفي، ما يسمح ضمناً بتمرير استحالة تطبيق الديموقراطية وفق نموذجها الأصلي، أو حتى على النموذج التوافقي الذي لا يظهر بعيداً عن الاحتراب في العراق أو لبنان.
القسم الوحيد الذي قد ينال وضعاً خاصاً ضمن الكيان السوري الجديد هو القسم الكردي، وقد تساعد وضعية إقليم كردستان العراق على تقديم إطار مشابه للأكراد السوريين بدرجة استقلال أقلّ ربما. لكن الميزة الأساسية للأكراد التي ستمكنهم من تعزيز استقلالهم ليست، حسبما يُشيعه بعض العرب، محض انحياز غربي لهم أو شيئاً من قبيل المؤامرة، فهي تتعلق بالدرجة الأولى بوجود قوة ديكتاتورية وحيدة، غير إسلامية، مسيطرة على المناطق الكردية وتحظى بنسبة قبول جيدة من الأكراد. ميليشيات الحماية الشعبية الكردية، فضلاً عن عدم دخولها في صراع عسكري ضد النظام وحلفائه، قد تكون الأكثر قابلية للتنسيق مع الجهود الأميركية، خاصة مع تعثر الأخيرة في استقطاب متطوعين عرب “سنة” ضمن برنامج التدريب في تركيا والأردن.
على المقلب العربي “السني”، الأمر مختلف تماماً، فباستثناء سيطرة داعش على مساحة واسعة من الأراضي لا توجد سلطة أمر واقع مقبولة تفرض نفسها على الأرض وعلى المجتمع الدولي قبل المحلي. هناك العشرات من الفصائل ذات الميول والأهداف المختلفة، نسبة كبيرة منها تخضع لاعتبارات التمويل، ومهما أبدت من تنسيق عالٍ في المعارك الأخيرة يبقى التنسيق خاضعاً لاعتبارات الداعمين أكثر من خضوعه للضرورات الداخلية. هناك أيضاً تمايزات مناطقية بين الفصائل، والجهادية من بينها أثبتت قدرة أكبر على التوسع في مختلف المناطق. الجيش الحر لم يكن في أي يوم سوى تسمية مجازية لفصائل مبعثرة هنا وهناك، أما القيادات العليا التي جُرّبت من رئاسة أركان أو مجالس عسكرية فثبت أنها غير قادرة على الاضطلاع بدور إداري فضفاض حتى. بالطبع، جبهة النصرة وحلفاؤها غير مقبولين دولياً، على رغم ما يُفهم من رضى دولي عن انتصاراتهم الأخيرة، إنما ذلك يتوقف عند عتبة الضغط على النظام ومن المستبعد السماح بتثمير هذه الانتصارات مستقبلاً.
لا ينطلق خيار الإبقاء على نظام الأسد بعد نزع رأسه من أرضية أخلاقية أو حقوقية، وهو أشبه بما اعتاد السوريون على سماعه من التفاضل بين خيارين سيئين، بدءاً من شعار النظام “الأسد أو نحرق البلد” ثم “إما الأسد أو داعش”. خيار الإبقاء على النظام يعتمد وعيداً واقعياً مشابهاً، فإما نظام قوي أمنياً ينخرط في الحرب على الإرهاب أو تبقى سورية ساحة حرب وصولاً إلى استنزاف الجميع. إما سورية موحدة، حيث فقط النظام الأمني يضمن القضاء على المجموعات الإرهابية والتخلص من فوضى السلاح، أو بقاؤها لمدة قد تطول في ما دون التقسيم الرسمي الذي دونه حرب الجميع على الجميع.
مشكلة سورية أن الاستثمار في الحرب فيها أكبر مردوداً من الاستثمار في التغيير وإحلال السلام، وإذا تذكرنا أن النظام قد وضعها أصلاً في دائرة النفوذ الإيراني المطلق قبل الثورة، فإن كافة القوى المنخرطة في الحرب على النظام ليس لديها ما تخسره في الحرب. جزء لا يُستهان به من اللامبالاة الغربية تجاه سورية أنها لم تكن يوماً في دائرة النفوذ الغربي، وفي ظل انحسار الصراع العالمي على مناطق النفوذ لا تملك قيمة استراتيجية استثنائية تدفع الغرب إلى التدخل، لذا لا أمل إطلاقاً بمظلة غربية تحرض على تغيير جوهري، ومن نافل القول أن الغرب لن يتطوع بالوصاية المباشرة على سورية حتى تُنجز فيها مرحلة التحول. للغرب مصلحة وحيدة أكيدة هي ألا تنتشر الفوضى السورية بحيث تهدد الاستقرار الدولي، وألا تغنم المنظمات المتطرفة السلطة على نحو ما فعلته طالبان في أفغانستان.
إذاً، العبرة لدى دوائر القرار الغربية لم تكن يوماً في قوة أو ضعف النظام، أو في عدم قدرته على الصمود لولا الدعم الخارجي، فالأهم أنه على رغم خسائره الباهظة وتراجع سيطرته على الأراضي إلى ربع المساحة السورية، لم يتصدع من داخله، ولم تنقسم جبهة مؤيديه وتتشتت ميدانياً. بهذا المعنى فحسب، تبدو سلطة الأسد نظاماً بالمقارنة مع فصائل المعارضة المسلحة وتشكيلاتها السياسية، ويبدو كأنه الخيار الواقعي الوحيد فيما لو أُعيد تأهيله. الانتصارات أو الخسائر العسكرية الموضعية لا قيمة كبيرة لها في هذا الميزان، طالما بقيت الجبهة المقابلة للأسد غير موحدة وغير متفقة الأهداف باستثناء ما تعلنه من عزمها على إسقاط النظام.
أن يكثر الحديث عن التقسيم في الآونة الأخيرة فذلك لا يدلل على اقترابه، إلا إذا انعقدت النية على نشر الفوضى في المنطقة، وهنا أيضاً يصعب توافر حماية دولية لمشروع تقسيم سورية وحدها. الكرة لا تزال في ملعبي داعمي المعارضة وحلفاء النظام، المطلوب من المعارضة وداعميها لملمة تشتتها وإظهار “الكفاءة” لتشارك في النسخة المنقحة من النظام، والمطلوب من حلفاء النظام التضحية برأسه. جنيف جاهزة للاستقبال عندما “ينضج” الطرفان، والسلاح غير الحاسم جاهز لمن يريد مهلة قبل الوصول إليها.
الحياة – عمر قدور