منذ القدم أعلن المشروع الشيطاني عداءه للحقيقة ومنع وصولها للرأي العام. هذه الحقيقة تتمثل تارة بالإيمان بالخالق وأخرى بما يرتبط بمصالح الناس وأخبارهم، وثالثة بتجليات الظلم ومصاديقه. لذلك كان استهدف الحقيقة وسيظل العنوان الأوسع للصراعات في العالم، خصوصا في غياب القيم النبيلة التي يفترض ان تقترن بالإنسان الصالح: وينسب لرسول الله قوله: «قل الحق ولو كان مرّا» وقال علي بن أبي طالب: «قل الحق ولو على نفسك». وتغييب الحقيقة، في نظر من لا يتوفرون على تلك القيم، ضرورة لتبرير العدوان على الآخر او إلقاء اللوم عليه.
لقد كانت الشهيدة شيرين أبو عاقلة، كغيرها من ضحايا الاحتلال الإسرائيلي، قد كرست حياتها لنقل «الحقيقة» ليس عبر الإدّعاء او التقوّل، بل بالصوت والصورة من الميدان. فقررت الانتماء لواحدة من أخطر المهن، الإعلام. هذا لا يعني ان من يعمل في هذا المضمار يتسم بقول الحق، فما أكثر الوضّاعين والمنافقين ممن يلعق قصاع الطغاة والمحتلين ويمسح قاذوراتهم بقلمه. وما أكثر ذوي النفوس الرخيصة في عالم يستعد البعض لبيع ضميره وموقفه من أجل حفنة من المال او الوجاهة الوهمية. فهل كان بالإمكان تمرير مشروع التطبيع مع العدو إلا بمساعدة عدد لا يستهان به من «الإعلاميين» الذين روّجوا الاستسلام والخيانة بمقولات زور فاقعة: ألم يقولوا ان التطبيع انما يهدف لـ «إحلال السلام» في المنطقة و«دعم الفلسطينيين» و «توفير آلية للضغط على إسرائيل». قالوا هذا وأكثر، فما هي النتيجة؟
استهداف الحقيقة بالتزوير والتلفيق وقتل ذوي الأقلام الحرة ليس جديدا، بل أنه ظاهرة عالمية. وهو جانب من الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر: «وجاؤوا على قميصه بدم كذب». ألم تتغير لهجة الإعلام القبلي تجاه رسول الله الذي كان يُعرف قبل إعلان بعثته بـ «الصادق الأمين»؟ ألم يقولوا عنه بعد إعلانها «معلّمٌ مجنون» و «ساحرٌ أو مجنون».
أما قصة الحقيقة في فلسطين فلها قصول كثيرة، تبدأ بتزوير التاريخ وتجاهل حقائقه التي تؤكد ان العرب كانوا يقطنونها منذ 7000 آلاف سنة، اي قبل 5000 آلاف سنة من ظهور نبوّة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام. ويتواصل التزوير حتى الوقت الحاضر. وارتأى أعداء الحقيقة ضرورة تكميم الأفواه وإسكات الألسن التي تتحدث بما يؤكدها. فما عسى ان تملكه الشهيدة شيرين أبو عاقلة سوى جهدها الإعلامي الذي يقتصر عادة على نقل الوقائع من الداخل الفلسطيني وجرائم الاحتلال اليومية. في عالم يعادي الحقيقة لا مكان سوى لما يسعى أعداؤها لترويجه. فقتل الفلسطينيين يوميا لم يعد خبرا يستحق الاهتمام من جانب وسائل إعلام تحالف قوى الثورة المضادة. بل أن جريمة الاغتيال نفسها لم تتصدر وسائل الإعلام الدولية، بل اكتفى الكثير منها بإيراد الخبر على صفحاته الداخلية. والأسوأ من ذلك أن هذا «الإعلام الحر» ركز في اليوم الأول على بث الرواية الإسرائيلية المختلقة التي كانت تهدف للتضليل وكسب الوقت لمنع تفاقم الغضب الفوري ضد الاحتلال. وكانت رواية الصحافيين المرافقين للشهيدة كافية لتأكيد الجريمة الإسرائيلية بعد لحظات من وقوعها بدون لبس. هذه الحقيقة تساهم في توضيح معالم المشروع الشيطاني المسيطر على العالم، الذي تمثل «إسرائيل» إحدى دعاماته.
الإنسانية ستظل عاشقة للحقيقة في عالم يهيمن عليه المزورون والدجالون والمنافقون والسفاحون
ثمة حقائق ذات صلة بالحديث عن الشهيدة الفلسطينية من حيث الانتماء والتاريخ والقضية وطبيعة العدو. أولها أن مقتل الإعلاميين وهم يؤدون واجبهم ليس جديدأ، فقد لقي 46 صحافيا مصرعهم العام الماضي حسب إحصاءات منظمة «مراسلون بلا حدود» وهذه أدنى حصيلة منذ 20 عاما، إذ بلغ عددهم 94 في العام 2018. وأغلب حالات الوفاة ناجمة عن تواجد الإعلاميين على الخطوط الأمامية للنزاعات المسلحة. ثانيا: أن اعتقال الصحافيين هي الأخرى ظاهرة لم تتوقف، وفي العام الماضي اعتقل 488 إعلاميا أغلبهم في ميانمار وبيلاروسيا والصين والكيان الإسرائيلي. ويقبع في سجون الاحتلال، حسب نادي الأسير الفلسطيني، 16 صحافيا، من بينهم الصحافي محمود عيسى المعتقل منذ عام 1993، والصحافية بشرى الطويل من مدينة البيرة التي اعتقلت خلال السنوات الماضية 6 مرات، معظمها إداريا. ثالثها: أن عدد الصحافيين الذين لقوا مصرعهم في الأراضي المحتلة في العقدين الأخيرين بلغ حوالي 50، آخرهم شيرين أبو عاقلة. رابعها: ان أغلب حالات الوفاة ناجمة عن ظروف العمل وخطر البيئة التي يعملون فيها. ولكن الخطر يكمن في اغتيال الإعلاميين من قبل الأنظمة التي تسعى للتعتيم على الحقيقة.
فلو أن شيرين توفيت نتيجة إصابتها برصاصة طائشة لكان ذلك أمرا محزنا ولكن لم يكن لياخذ أبعادا سياسية وأخلاقية كما حدث. ففي القرن الحادي والعشرين يفترض أن يكون توسع دائرة الحريات العامة كافيا لحماية الإعلاميين، خصوصا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي على نطاق واسع. فلم يعد نشر الحقيقة محصورا بالإعلاميين الرسميين، بل إن تلك الوسائل أصبحت متاحة للجميع، وتساهم في إيصال الخبر لحظة وقوعه إلى كافة مناطق العالم.
جاء اغتيال مراسلة قناة «الجزيرة» ليفتح ملف استهداف الإعلاميين ذوي النزعات الاستقلالية والتحررية في فلسطين وغيرها. ففي مثل هذه الأيام من العام الماضي قصفت قوات الاحتلال برج الجلاء في غزة الذي كان يضم مكاتب قناة «الجزيرة» ومؤسسات إعلامية أخرى. وقال الدكتور مصطفى سواق المدير العام بالوكالة لشبكة «الجزيرة» الإعلامية : «إن تدمير مكاتب الجزيرة وغيرها من المؤسسات الإعلامية في برج الجلاء بغزة يعد انتهاكا صارخا للمواثيق الدولية وحقوق الإنسان ويعتبر جريمة حرب». حينها كتبت جين ساكي المتحدثة باسم البيت الأبيض على تويتر «لقد أبلغنا الإسرائيليين مباشرة بأن ضمان سلامة وأمن الصحافيين ووسائل الإعلام المستقلة هو مسؤولية قصوى». ولكن استهداف الإعلاميين يمارسه بعض حلفاء «إسرائيل» أيضا. ففي 2003 قتل طارق أيوب، مراسل قناة «الجزيرة» في بغداد، وأصيب المصور زهير العراقي بجروح عندما قصفت طائرة أمريكية غازية مكتبها في بغداد. وكان ذلك قصفا متعمدا لأن القناة كانت تنقل وقائع الغزو على بغداد بشكل مباشر. وفي 2012 قامت قوات الأمن في البحرين بتصفية الإعلامي صلاح عباس حبيب أل موسى بإطلاق النار عليه، ومنعت ذويه من التعرف على جثته لمنع تصويرها. وكان هذا الصحافي يقوم بتغطية احتجاجات شعبية ضد إقامة سباق السيارات الذي تنظمة إدارة فورمولا 1.
وما أكثر الصحافيين الذين اغتيلوا بدم بارد وهم يمارسون مهمتهم ومن هؤلاء: يان كوتشياك الذي قتل بالرصاص مع صديقته مارتينا كوسنيروفا، في سلوفاكيا في 2018 بسبب تحقيقاته الصحافية حول التحايل المالي من قبل رجال الأعمال ذوي العلاقات مع كبار السياسيين في براتيسلافا. وفي 2017 قتلت الصحافية دافني كروانا غاليزيا بتفجير سيارة مفخخة في مالطا بسبب تقاريرها عن الفساد الحكومي. وفي 2013 اغتيل مايكل دين، مراسل قناة سكاي بينما كان يغطي الاحتجاجات الشعبية ضد إسقاط المرحوم محمد مرسي من الرئاسة في القاهرة.
وهكذا تتضح حقيقة الصراع بين الحقيقة وأعدائها، وكيف أن أولئك الأعداء مستعدون لإراقة الدماء وإزهاق الأرواح لإخفاء الحقيقة التي يتصدى لإظهارها الشرفاء خصوصا من الإعلاميين وآخرهم الشهيدة شيرين أبوعاقلة. إنه سباق بين دماء الشهداء والحقيقة التي يضحون بأرواحهم لإظهارها والطغاة والمحتلين الذين يزهقون أرواح البشر للتزوير والتضليل وطمس الحقيقة. الإنسانية ستظل عاشقة للحقيقة في عالم يهيمن عليه المزورون والدجالون والمنافقون والسفاحون. وفق جريدة القدس العربي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع