في الفضاء المتوتر والمضطرب لما باتت عليه العلاقات الأميركية – الروسية، لم يبق هناك ما يدفع إلى الاعتقاد بإمكانية اجتراح مزيد من التوافقات، فضلاً عن مزيد من الاختلافات في السياسة، بعد تلك الأشواط التي قطعتها علاقات بدت متسامحةً في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، حتى بدت السياسة نفسها لعبة استغماية، على الرغم من إضفائها مزيداً من الاضطراب على مواقف البلدين، خصوصاً تجاه النظام السوري وحربه ضد شعبه وقوى المعارضة على اختلاف أطيافها وتلويناتها، والخلاف على إيجاد توصيفاتٍ لها، لا سيما لدى واشنطن، فيما ذهبت موسكو بعيداً في خوض حربها هي الأخرى، ليس دفاعاً عن النظام وجبهة تحالفاته المليشياوية، بل دفاعاً عن موقع استراتيجي لروسيا في قلب المنطقة، بات يؤهلها للمنافسة على مصادر القوة وإثبات الوجود مع الولايات المتحدة التي اهتزّت مواقع أقدامها في المنطقة وفي العالم، كما لم تهتز قبلا، حتى في عز أيام الحرب الباردة القديمة.
أما تلك المستعادة الآن على خلفية الأزمة السورية، ومن قبلها الأزمة الأوكرانية وتداعياتها يومها، فهي قابلةٌ لأن تزلزل الأرض تحت أقدام النظام الروسي من جهة، ليس في بيئته القديمة، وكذلك تحت أقدام النظام الأميركي، لا سيما في منطقتنا تحديداً، وهو الذي يفتقد سياسةً متماسكة، خصوصاً في لحظةٍ انتخابيةٍ قلت نظائرها في السابق، ليس في ترسم سياسةٍ متفائلةٍ أو متماسكةٍ، بين حزبي التداول السلطوي، المصمّم أصلاً لخدمة احتكارات السلطة والمال والمجمع الصناعي الاقتصادي والعسكري في الداخل، بل وفي ترسيم حدود التدخل الأميركي في أزمات المنطقة والعالم، بعد خلاصات التجارب المرة للتدخل العسكري المباشر في كل من أفغانستان والعراق.
وإذا كان ثمّة ما يقال عن محاولات إعادة ترجمة توافقات روسية – أميركية في سورية، في اتجاه تثبيت وقف إطلاق نار دائم وهدن مستمرة، في طيات الوصول إلى تسويةٍ سياسيةٍ دائمة، فقد أثبتت التداخلات المتعاكسة الروسية – الأميركية عن أنها أبعد ما تكون عن قيادة عمليةٍ سياسيةٍ، تقود إلى إنضاج مثل تلك التسوية المنشودة؛ فما يجري حقيقةً، وفي الكواليس، وفي الواقع العياني المكشوف، وفي ضوء معركة حلب، صراع قوةٍ بين طرفي “المعادلة الدولية”، ما زال بعيداً عن تعيين أي سورية التي يراد إنقاذها: سورية “الدولة المفيدة” أو “سورية النظام” الذي يراد تثبيت أركانه، وبالتالي، الاستفادة منه لصالح أكثر من طرف، كما ولصالح تثبيت أركان نظام أمني استراتيجي، يحمي كيان الاغتصاب والاستيطان الإسرائيلي، في ما يقدمه من خدماتٍ جلى لمصالح الأطراف الرئيسة اللاعبة على مسرح الأزمة السورية؛ من روسيا واعتدادها بالقوة المستعادة، إلى الولايات المتحدة الساعية إلى الحفاظ على الأمن الاستراتيجي للكيان الإسرائيلي، إلى النظام السوري وكامل تشكيلة تحالفاته مع النظام الإيراني ومليشياته المذهبية، وتحالف ما يسمى قوى “الممانعة والمقاومة” التي باتت “وقفاً موقوفاً” (وفق اللغة الدينية) على دعم الأطماع الإقليمية والامبراطورية للنظام الإيراني، والصمت الغربي على دور نظام أمنت له مجموعة (دول 6+1) الغطاء المباشر وغير المباشر، من أجل الشراكة مع إسرائيل في هز أركان المنطقة ودولها، وتفتيت وتشتيت إجماعاتها وجماعاتها شعوباً ومجتمعات، فضلا عن الشراكة غير الواضحة، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع “داعش” في لعب أدوار أساسية في استشراء قوى الهيمنة السلطوية المحلية والإقليمية والدولية وتغوّلها، وتغييب السياسة والتعقل في مواجهة حراكات الشعوب الهادفة إلى تغيير أنظمة الاستبداد، وبناء دولٍ تتحوّل على وقع الدسترة القانونية والممارسات الديمقراطية إلى دولٍ مدنية وطنية، دولاً لكل مواطنيها، لا تخضع لاحتلالاتٍ أجنبيةٍ مكشوفةٍ ومستترة على ما هو حال العراق وسورية اليوم.
وفي حال استمرار المناكفة الروسية – الأميركية، ليس إزاء ما يجري في سورية، بل وعلى صعيد التحلل من اتفاقاتهما الاستراتيجية الملزمة، وتلك التكتيكية، فهذا يعني اتجاهاً متصاعداً نحو حدوث تغير جذري في العلاقات بين البلدين، وفق ما أشار إليه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، يوم 9/10/2016، متهما الجانب الأميركي باتخاذ خطواتٍ عدائيةٍ تجاه روسيا.
و”الحديث لا يدور عن تصريحاتٍ معادية لروسيا فقط، بل وعن خطواتٍ عدائية تمس بمصالحنا وتعرض أمننا القومي للخطر”.
موضحاً أنه يقصد بـ”الخطوات العدائية” اقتراب حلف الأطلسي (الناتو) وبناه التحتية العسكرية من الحدود الروسية، لا سيما نشر الأسلحة الثقيلة وطيران الحلف ومنظومات الدفاع الصاروخية، على طول حدود روسيا وحلفائها في أوروبا وآسيا، فضلا عن العقوبات المفروضة على موسكو. وأخيراً، وصل الأمر إلى موضوع الأمن الإلكتروني.
بالطبع، لم يكن من دون مغزى نقل موسكو مزيداً من أسلحتها الاستراتيجية إلى سورية، وذلك بالتوازي مع وجود أسلحةٍ استراتيجيةٍ أميركيةٍ وأطلسيةٍ على مقربةٍ من المنطقة، في محاولةٍ “ردعيةٍ” جديدة، تتجاوز هدف مضاهاة قدرات وإمكانيات ما تمتلكه المعارضة السورية، وإنما الهدف مضاهاة الأسلحة الاستراتيجية لكلا الطرفين، في مواجهة بعضهما، ما دفع واشنطن لتجنب الرد على التهديدات والاستفزازات الروسية، في تأكيدٍ جديدٍ على أنها لا تريد التصعيد. الأمر الذي جعل صحيفة وول ستريت جورنال تتساءل عمّا إذا كانت الإدارة الأميركية قد استفاقت، أخيراً، مما أسمته “سباتها الطويل”، لتقف على حقيقة التهديدات الروسية؟
وفي وقت نقل من واشنطن، خلال الأسبوع الماضي، أن مشاوراتٍ سريةً تجري في البيت الابيض، وفي مجلس الأمن القومي، لبحث إمكانية قصف أهداف لنظام الأسد بصواريخ عابرة، بشكلٍ يقلص خطر إصابة الجنود الأميركيين؛ ردّت موسكو، على الفور، بإعلانها عن نشر صواريخ أرض ـ جو متقدمة من نوع “إس 300” في سورية التي يمكنها إسقاط الصواريخ العابرة أيضا. وفي الوقت نفسه، أعلنت روسيا عن تجميد تطبيق الاتفاق مع الأميركيين حول تفكيك البلوتونيوم الذي تم التوقيع عليه في العام 2000، باعتباره جزءاً من الجهد المشترك لتقليص السلاح النووي. وأعلنت أيضا عن إرسال سفينةٍ ثالثةٍ كبيرة للصواريخ، إلى البحر المتوسط.
وأخيراً، وفي سياق الخطوات التصعيدية المتواصلة، صوّت مجلس الدوما على مشروع قرارٍ يسمح للقوات الروسية بالبقاء في الأراضي السورية إلى ما لا نهاية، أي من دون سقف زمني محدّد. ما يدفع إلى الاعتقاد بوجود نية روسية لمواجهة مترتبات العودة إلى عهد الحرب الباردة، أشار إليها نائب وزير الدفاع الروسي، نيكولا بانكوف، أمام مجلس الدوما، عندما أخبر النواب الروس أن وزارته “تدرس إمكانية إعادة فتح القواعد السوفياتية في كوبا وفيتنام”. وأوضح أن “اتصالاتٍ تجري مع السلطات الكوبية والفيتنامية في هذا الاتجاه”، لكنه لم يعطِ تفاصيل عمّا إذا كانت موسكو قد حصلت على موافقة منهما أم ليس بعد. الأمر الذي ينسجم مع السياسة الهجومية البوتينية، منذ بدء الصراع في أوكرانيا، وضم القرم، ودخول روسيا المستنقع السوري قبل عام مضى.
واستشعاراً لمدى خطورة العودة إلى أجواء الحرب الباردة، حذّر وزير الخارجية الألماني، فرانك فالترشتاينماير، من تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، لافتاً إلى أن الوضع الراهن بين القوى الكبرى أخطر من الحرب الباردة، على خلفية التصعيد القائم بين الدولتين، وتجميد واشنطن المحادثات مع موسكو بشأن سورية، معتبراً أن “استمرار هذا الوضع يدفعنا إلى القول إننا سنعود إلى عصر المواجهة بين القوتين العظميين، في وقتٍ نشهد على بقايا الثقة المتداعية بينهما”، لافتاً إلى أن العصر الجديد مختلف وأكثر خطراً.
على هذه الخلفية القاتمة، لم يبق سوى القول إن المستنقع السوري بات فعلا أحد عوامل دفع المواجهات المحتملة بين قوى التصارع الدولي، وفي طياته الإقليمي، على النفوذ والهيمنة، إلى مستوياتٍ من التسخين عالية، بعد أن أخمدت سنوات تجميد الحرب الباردة ليس نزعات الحروب، بل وأجّجت مزيداً من نزعات التنافس والصراع على المصالح القومية غير المتصالحة، وهي، في إثارتها، مزيداً من نيران التكالب على مصادر الطاقة والأمن الاستراتيجي الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي، ودخول عوالم السوبرنطيقا والعولمة المتمادية في تجاوز مصالح الضعفاء، لا شك أنها سوف تستجلب مزيداً من أسباب الصراعات في حروبٍ باردةٍ مستعادةٍ، قد تكون مختلفة وأكثر خطراً، بحسب تعبير وزير الخارجية الألماني.
العربي الجديد – ماجد الشيخ