غرد ماذا كان يقول السجان السوري عندما كان يعذّب معتقلاً؟ ماذا كان يقول الأخير؟ وبماذا كان يشعر؟
كانت حكاية الداخل إلى “جهنم” السجون السورية تبدأ عادةً بجملة يوجهها رجل الأمن إلى المتهم: “عازمينك على فنجان قهوة”. في السجن السوري تتغيّر معاني الكلمات العادية لتأخذ معاني دموية وسلطوية. يتوقف الدولاب عن كونه أداة لتقريب المسافات، وتبتعد حكاية بساط الريح عن كونها أسطورة. يساعدنا أدب السجون السورية على رسم لوحة عذابات السوريين.
الدولاب
وسيلة تعذيب يستخدم فيها الإطار الخارجي لدولاب السيارة، فيتم إدخال السجين فيه بحيث يخرج رأسه ورجليه من جهة واحدة بينما يداه مكبلتان خلف ظهره.
يلتفت السجّان إلى مساعديه. يصرخ: “هاتوا الدولاب، لازمو حمّام (تعذيب بواسطة الدولاب)”. “إنزل بالدولاب. ادخل في الدولاب”، يسمع السجين. “لا أعرف كيف أدخل في الدولاب؟”، يقول السجين لنفسه.
لا ضير في ذلك. ما يفضّله السجان هو هذه الحيرة في مواجهة الدولاب، لأنه يتحيّن لحظة التدخل لـ”مساعدة” المعتقل وحشره في الدولاب. الدولاب وسيلة تعذيب تمرّن الأخير على “الحشر” فهو سيُحشر بعد ذلك في طريقة نومه، وسيتم تسييفه (استلقاؤه على جنبه في الزنزانة إفساحاً في المجال أمام الآخرين للاستلقاء بدورهم)، وسينام بطريقة الكرسي (يجلس السجين في الزنزانة الضيّقة على قاعدته ويجلس رفيقه على ركبتيه وهكذا)، كما سيدخل في النفق (مهجع ضيّق المساحة). ففي السجن يُعاد نحت جسد السجين.
يروي سجين: “طرحوني أرضاً بعد أن خلعت نعلي، وفي لمح البصر كنت في الدولاب، رأسي باتجاه قدميّ، وراح جمع من الجلادين يتناوبون عليّ” (سليمان أبو الخير، الطريق إلى تدمر كهف في الصحراء).
“اسمع ولا، هدا مو شي، نحنا مسموح لنا بقتل 25 بالمية منكم”، يقول السجّان (البراء السراج، من تدمر إلى هارفرد). ما يقوله الجلاد تنبيه يظهر أن الضرب الذي سبق أن خبره السجين ليس سوى نذر يسير مما ينتظره.
يرافق الدولاب السجين طوال فترة سجنه، لكن جولاته تتضاءل لمصلحة وسائل أخرى، فهو ليس سوى حفل الاستقبال. فـ”الاستقبال أو التشريفة هو حفلة فلقة من 100 كبل في الدولاب لكل واحد منا (قد يأكل الإسلاميون 500 كبل) ونحن عراة إلا من الكلاسين والهدف منها كسر العين” (ياسين الحاج صالح، بالخلاص يا شباب).
الشبح
يُرفع السجين من يديه أو رجليه. غالباً ما كان يتم ربط قدمي السجين بالحبال بإحدى درجات السلم العليا، فيتدلى مقلوباً لتبدأ السياط والكابلات بالتهام جسده. وعندما تنتهي جولة الضرب يتم فك الوثاق عن قدمي السجين ليسقط على رأسه أو على ضهره.
“يُشبَح” السجين على السلم، “سلم آخر وباتجاه آخر، حيث كل شيء يهبط ما عدا الروح وحدها تجاهد في صعود ذلك السلم الأسطوري، ذلك المعراج الضليل وهو يأخذك من الحياة إلى الموت” (فرج بيرقدار، خيانات اللغة والصمت).
لحظة ارتطام السجين بالأرض بعد انتهاء جولة التعذيب هي الذروة. “رموا السلم، وأنا معه، بقوة على الأرض… كانت صرختي الأخيرة تلك التي لن أنساها يوماً، أفزعتهم فقطعوا مرابطي في لمحة البصر واندفع جسدي إلى الخلف امتاراً” (لؤي حسين ،الفقد).
بساط الريح
هو “جهاز خشبي متحرك يُربط إليه السجين من أطرافه الأربعة، ويتم ثني هذا الجهاز أثناء ضرب السجين بالعصي والكابلات” (سليمان أبو الخير). يسمى أسلوب آخر ببساط الريح أيضاً، ويتمثل بعملية رمي المسجون على رؤوس سجناء آخرين، ويطلق عليه أحياناً المظلة.
يختار الشرطي أثناء “التنفس” (فترة خروج السجناء من زنازينهم إلى ساحة السجن) أحد المسجونين ويأمر آخرين بالجلوس في مكان محدد ثم يمسك به بمساعدة شرطي آخر “فيلوحان به في الهواء، يعدان: واحد، اثنين، ثلاثة ويرميان به فوق رفاقه على رؤوسهم وظهورهم” (علي أبو دهن، العودة من الجحيم). نتائج المظلة ستكون “واحداً من ثلاثة أشياء: إما كسور مختلفة في سائر أنحاء الجسم وعلى الأغلب في الحوض، وإما شلل دائم عندما يكون الكسر في العمود الفقري، أو الموت وهو الاحتمال الثالث خاصة عندما يسبق الرأس الجسم في النزول” (مصطفى خليفة، القوقعة).
من كتاب “القوقعة”، يمكن استعادة الأجواء الجحيمية للتعذيب بـ”بساط الريح”: “خذوه على بساط الريح، وبس يقرر يعترف هاتوه لهون”، قال السجان. “سحبوني بعنف. ألقوني على لوح خشبي، ربطوني من جميع أنحاء جسمي، رفعوا الجزء السفلي من اللوح الخشبي عالياً”، قال السجين. بعد تثبيته، بدأ الضرب وبدأ الصراخ. تخدرت قدماه، وتوقف جسمه عن الاحساس بالألم، فأمر سجانه: “اتركوه… اتركوه، خذوه على الزنزانة، العمى ما أيبس راسه، متل راس الجحش”.
نجا صاحب “القوقعة” من عذابه بوصوله إلى درجة عدم الإحساس، ونجا غيره بسبب إغمائهم. لكن كثيرين لم يسعفهم الحظ واستمر جسدهم بالاستجابة، فشجع شعورهم بالألم سجانهم على الاستمرار إلى أن صُرعوا أو أصيبوا بعاهة مستدامة. يروي أحد المعذبين: “ولم أكن أنجو من هذه الحفلات الدامية إلا عندما يغمى عليّ، لاستيقظ وأنا في الزنزانة عاري البدن مقطع الأوصلال مبللاً أرتجف من شدة البرد” (محمد سليم حماد، تدمر شاهد ومشهود).
الكهرباء
من صندوق صغير يتمّ توليد الكهرباء بواسطة ذراع معدنية يتم تحريكها دائرياً. وأحياناً، تربط هذه الآلة بأعضاء السجين التناسلية.
كتب أحد نزلاء سجن تدمر وقائع التعذيب باستخدام هذه الطريقة: “بتحكي ولاك وإلا منشويك بالكهرباء متل العصفور”، قال السجان. “وسرت الكهرباء في الأسلاك كأنما هي العقارب تدب وتلسع في رجلي ثم اشتدت فأخذت جسمي رجفة شديدة، والنار تسري في دمي وعظامي وتأخذ قلبي” (مصطفى طه رضوان، في القاع).
تترافق هذه العملية مع “صراخ أو عواء مقلوب، لا يمكن للمرء التحكم به أو السيطرة عليه” (خيانات اللغة والصمت). “فصرخت بصوت ضعيف: والله بحكي يا سيدي، بحكي” (في القاع).
الكرسي الألماني
أسوأ وسائل التعذيب في السجون السورية، ويعود اسمها إلى النازيين الذين كانوا يستخدمونها.
“حطوه بالكرسي. نام على بطنك”، يأمر الجلاد ضحيته، ثم يبدأ بالدوس على جسده ويجذب كتفيه إلى الخلف. يصف أحد المعتقلين السابقين في سجن تدمر حالته تحت تعذيب الكرسي الألماني: “صار نصفي العلوي ملتصقاً بكرسي الحديد إلى أعلى. لم أعد قادراً على الصراخ والتنفس، أصبحت كزاوية 90 فأغمي علي” (علي أبو دهن).
أهوال هذا الكرسي جعلت رواة أدب السجون يتحدثون عنه بلغة وجدانية، فهذا فرج بيرقدار يكتب في تغريبته: “إني لا أبالغ حين أقول إنه أكثر من نصف موت، ذلك أنك وأنت مشدود إليه، يشقك أقل من نصف شهيق، ويتكىء العالم كله على أقل من نصف زفير. أيها السادة إنكم لم تجربوا هذا النوع من الكراسي ولم تسمعوا تفجعات زنوبيا كما يسمعها معتقلو سجن تدمر في أحلام اليقظة والنوم” (خيانات اللغة والصمت).
بالإضافة إلى طرائق التعذيب المذكورة أعلاه هناك “الفسخ”، إذ يقف سجانان على ركبتي المسجون الممدد على ظهره بعد حشر كرسي يوضع عند منطقة الحوض ويقفزان فوقهما، وهذا ما يولد ألماً شديداً عند المفاصل، ويمكن أن يتسبب بكسر الحوض.
يتمحور التعذيب في الدرجة الأولى حول الحصول على اعترافات السجناء. لكن عبثية كل هذا العنف تبرز في مسألة أشار إليها معظم كتاب أدب السجن السوري: عندما تُظهر التحقيقات أن المسجون بريء ينقل إلى قسم يُسمّى “مهجع البراءة”، وقد يبقى فيه عشرات السنوات.
محمود حمادي – رصيف 22