“فهمت الحياة، ورأيت فيها ماكنت أخشى رؤيته، عرفت أن الجسد لا يكبر إلا ليفنى جسد آخر.. كثيرها (الحياة) يصدأ وقليلها على بريقه محافظ.. وها نحن الآن في مدينتي حماه، وبعد أن تركت الثمانين عاماً ورائي أشاهد بريق أبنائها وأحفادها ممن نجوا في مذابح الثمانينات ولم يكونوا في جملة من مات من ربع قرن، إنهم يجددون البريق والأمل ويحافظون على خطا الآباء بعدما رسموا لهم طريق الحرية”.. تلك كلمات الجد الجليل “أبي محمود” من مدينة حماه وبلسان يشهد على مسيرة مدينة عانت من الظلم كثيراَ وها هي اليوم على خطا النور من جديد.
تابع الجد حديثه متكئا على وسادته القديمة، والتف حوله من بقي من الأحفاد قائلاً “ومع العلم أن مدينتنا كان لها حضور واضح من حيث الاعتقالات وعدد الشهداء، ومع زيادة ملحوظة في الآونة الأخيرة، حيث باتت الاعتقالات يومية، إلا أن مدينتنا كانت حضناً للكثير من النازحين من المناطق المجاورة، لم يقفل باب من بيوتها في وجه أحد”.
وبابتسامة باهتة قدمت ابنته الكبرى “أم خالد” كأس الشاي الثقيل كعادتها كثقل تلك الأيام التي عاشتها بعد إعدام زوجها أمام عينيها ميدانياً تحت شرفة المنزل.
يتابع الجد حديثه قائلاً “رغم مضي الأعوام إلا أن ما شهدناه في مدينة تتوسط الأراضي السورية، ويعتبر سكانها الأكثر مرارة وقسوة قياساً إلى حملات أمنية قد استخدمت من قبل نظام لا يرحم الصغير ولا الكبير مستخدماً قوات مدربة وخاصة ووحدات أمنية سرية للقضاء على المعارضة فيها، أحداث حماه ومجازرها الدموية هي الأقسى في تاريخ سورية”.
أخرج الجدّ علبة ورق السجائر ولف سيجارة من تبغ بلدي وأشغلها بأنفاس حزينة أحرقت أنفاسي قبل أن تحرق تبغ سيجارته “آه.. آه يا أحفادي رغم أنني فقدت أبنائي.. محمود قتل أمام عيني، وفراس اختفى في سجون الذل والهوان، وعلي فقد بصره من التعذيب.. إلا أنكم أنتم من علقت عليهم الآمال وحرصكم اليوم لنيل الحرية التي طالما افتقدناها وطالبنا بها لا بد أن يأتي بثمرة “.
جلست سلمى أصغر الأحفاد بحضن الجد الذي أشبعها حنان الأب وأخذت تمرر يديها الصغيرتين على لحيته البيضاء التي شهدت طهر قلبه.
تابع الجد حديثه “ها هي اليوم فصائل الثوار أحفاد من خرجوا للحرية في الثمانينات وقد عشقوا الحرية وذاقوا لوعة الألم، يسعون بكل ما لديهم لتحرير مدينة طالما حلمنا بتحريرها وأسأل الله الذي طال في عمري أن أنتظر تلك اللحظات وأشهد تكبيرات النصر في جوامع كانت شاهداً على الظلم لعقود”
“نحن الأحرار في وطننا.. ورح تبقى ثورتنا حتى نخلص من الطاغي بشار”.. كان آخر ما قاله أبو محمود في جلستي معه
المركز الصحفي السوري- بيان الأحمد