ودَعتهم والدموع تملأ عينيها، الحزن يغمر قًلبها، شعور خانق يسيطر عليها بأنها مغادرة من مكان لا عودة إليه، مدينة بدأت فيها مشوار مستقبلها وأنهته بكلمات حب متناثرة لصديقاتها وأحبابها.
لم تخطف الحرب أرواح الكثير فقط بل خطفت أحلام الكثيرين أيضاً فقد أغلقت العديد من الجامعات ، و ترك البعض الآخر جامعته لأسباب مختلفة.
يارا، طالبة جامعية من مدينة إدلب(22) عام، التحقت بجامعة تشرين في اللاذقية سنة 2011، اختصت بدراسة علم الاجتماع في كلية الآداب، استقرت مبدئياً عند عمتها في حي الصليبة المؤيد للثورة، عندما بدأت المظاهر الثورية ، قمعهم النظام بشتى الوسائل إلا أنهم استمروا بارتكاب مجازر عدة راح ضحيتها عشرات الشهداء.
تقول يارا:” في بداية دراستي لم أتأقلم جيداً مع أجواء اللاذقية فمكثت بإدلب غالباً لأن قلبي معلق بها، بعد تسارع الأحداث الثورية في مدينتي وتحرير معظم ريفها، توجهت أنظار عناصر النظام الأسدي إلى كل شخص ينتمي إليها، بدأت المضايقات لي ولم أعد أستطع الذهاب لعائلتي مراراً فتكونت لدي ردة فعل عكسية اتجاههم، وقررت أن أدعم ثورتنا حسب مقدرتي، انتسبت لفريق إعلامي مع أبرز النشطاء الميدانيين، شاركت بالنشاطات الثورية بجامعة تشرين والمظاهرات السلمية بالأحياء المنتفضة، تلتها تهديدات لي من الشبيحة وعناصر أمن الدولة، تخفيت عن الأنظار مدة قصيرة ثم عدت لأكمل دراستي من غير خوف”.
اللاذقية معقل رأس النظام لذلك عاث فيها عناصر الدفاع الوطني(الشبيحة) فساداً من تمرد واعتقال وتهجير لكل من يعارض النظام، واختطاف الفتيات أيضاً.
تستفيض في الحديث، السنة الثانية من دراستي أقمت بأحد الأحياء العلوية الموالية للأسد( مشروع الأوقاف) لكي أكسب ثقتهم وأكمل مسيرة تعليمي، نهاية الفصل الثاني أصبت بدهشة أوقفت الدم في عروقي وجمدت مدمعي، أبن عمي اليافع معتقل لديهم للمرة الثانية، وأخي الصغير انضم لصفوف الثوار دون علم أهله، مما زاد همّ غربتي فقد بلغ عدد معتقلي سوريا أكثر من 300ألف.
يصادف شباب إدلب قهر الأسد حيثما اتجهوا لأنهم من مدينة كسرت جبروته، إذ قامت إدارة جامعة تشرين بفصل الكثير منهم عن دراستهم لأنهم من تلك المدينة، واعتقلت العشرات منهم في أقبية سجونهم المظلمة، كان من بين المعتقلين أصدقائي.
تضيف، السنة الثالثة قبل الامتحان الأخير بأيام تفاجأت بخبر اختفاء أخي الكبير بعد سحبه من قبل شبيحة إدلب، أخذوه بناء على تقرير مزعوم صادر من أحد جيراننا، بعد أشهر من خروجه فر من مداهمة أمنية على منزلنا أجبرت أخي على القفز من الطابق الثالث إلى الأول لكي لا يقع بين أيديهم ويذوق ظلمهم من جديد فانكسرت ساقيه وبقي متوارياً عن أنظارهم إلى أن خرج من مدينة إدلب بعد أن طُلب لخدمة العلم الاحتياطية.
في تلك الفترة مع بداية 2014 أطلق النظام البعثي حملة واسعة لتجميع الشباب السوريين وسحبهم لخدمة العلم، فكان شباب مدينة اللاذقية المتبقين هم هدفهم لتصبح خالية إلا من نسائها، غطت الإعلانات شوارعها حول ضرورة مقاومة الإرهاب، مترافقة بحواجز طيارة صبَّت جام غضبها على كل شاب و اصطحبته للتجنيد الإجباري.
تستمر، السنة الرابعة بداية النهاية، تتالت فيها نكباتي عندما سكنت منطقة الزقزقانية العلوية المعتبرة مربع أمني محصن، لأستقبل أولها نبأ استشهاد ابن عمي المعتقل في سجن صيدنايا، هنا فقدت السيطرة على أعصابي وخرجت على الشرفة أمام فرع الأمن الجنائي أبكي وأصرخ “ليش هيك عملتو شو ذنبو؟؟” ليختم المشهد رئيس فرع الأمن الجنائي جاء ليحقق معي، أنهيت القصة ولهذه اللحظة أتساءل كيف؟، تحديت مشاكلي بإصرار قدمت امتحاني رغم حالتي النفسية المقتولة و عقب انتهائه سافرت لأهلي، تحررت مدينتي آنذاك 28مارس 2015، حينها منعتني المعارك وحقد قوات الأسد علينا لأننا حاضنة للإرهاب مع أوامر والديَّ لشدة خوفهم عليّ أن أذهب لأقدم امتحان الفصل الثاني.
لا بد من التذكير أن قوات النظام لجأت لابتزاز رجال إدلب فخطفت فتياتهم أو اعتقلتهم على الطرقات أثناء سفرهم لجامعاتهم بما أن الفتاة رمزاً للسمعة والشرف.
تتابع، أقنعت عائلتي بإتمام دراستي، استعدت همتي لكن أمشي بخطى متثاقلة مشتتة مشاعري بين الفرح والحزن، مدفوعة بحماس لأحصل على شهادة التخرج، للأسف تعثرت بعدة عقبات أحبطتني حينها لكنها سلحتني بالأمل ونجحت بخمسة مواد، لم أتوقع للحظات أن يكون آخر مكان (الكراجات) قبل مغادرتي اللاذقية أن يضعني في خانة الاختيار الصعبة إما حياتي أو مستقبلي، فقد تم توقيفي داخل مفرزة الأمن السياسي لساعات بتهمة التستر على إرهابي متخلف عن خدمة العلم العسكرية، أنجوا بأعجوبة وأنا على يقين تام بأن لا عودة لي إلى مدينة استنشقت فيها أنفاس الحرية وزرعت بأروقة جامعتها تفاؤل ببناء مجتمع تنموي تُعالَج مظاهره الاجتماعية بموضوعية.
” إن ما يعزّيني أني لست الوحيدة التي فُصلَت روحُها عن جسدها، بل واظبتُ على عمل يساهم بشكل أكبر من شهادتي في نهوض بلدي الأم سوريا، ويخلّصها من حكم الطغاة خلال كشفه عن جرائم النظام الوحشية، ألا وهو الإعلام المقتنعة برسالته السامية القادرة على تغيير مجرى الأحداث لصالح الشعب”.
المركز الصحفي السوري ـ محار الحسن