في مكان يعج بالخراب، تنبثق منه رائحة الدم كعطر يتناثر في الصباح ليوقظ قلوب المارة، “كنّاهنا يوما”… أصوات الرصاص تعلو لتتناغم مع أصوات صرخات الموت لتألف سمفونية الظلم المألوفة في أحياء حلب المحاصرة، وكأنها نشيد وطني للمنطقة الشرقية.
أي مشهد سأطالب الذاكرة بأن تنساه ؟!
أأطالبها بنسيان يوم (الفقد)، يوم خسرت أهلي بمجزرة جماعية.. يوم ركضت كالمجنونة أبحث بين الأشلاء المتناثرة عن زوجي؟
أأطالبها بنسيان مشهد الإبادة الجماعية وصرخات النساء التي انتهكت عصابات الظلم والإجرام عرضهن أم أشلاء الأطفال المتناثرة والجثث المرمية هنا وهناك؟! لعلي أدعها تنسى كل ما عانيناه في فترة الحصار من برد وجوع وخوف، وتترك لي صرخات القتل لتبقي صدري ثائرا حاقدا يطالب بالرجوع.
لم نعد ذلك الجنس الرقيق الذي يخاف صور الدم ويخشى على نفسه من صقيع البرد ويشتكي من حمل الأمتعة الثقيلة، في مدينتي كل شيء مختلف: الأطفال والنساء والشبان.. طرق القتل والوحشية والدمار.. كل شيء مختلف، أصبح أطفالنا شبانا ونساؤنا رجالا وشباننا أبطالا.. تلك الحرب غيرت الجميع، لم يعد هناك ما نخشاه.. ما نخاف حدوثه، فكل محظور أصبح مباحا في مدينتي، الصواريخ هناك تتساقط من كل حدب وصوب كمطر ينهلّ بغزارة ليروي الأرض دما لا ماء.
إن تجولت في أزقة مدينتي ورأيت طفلا بلا عائلة جالسا فوق ركام بيته تملأ عينيه نظرات الانتقام فلا تستغرب!.. إن رأيت امرأة خرجت تحمل السلاح تدافع عن عرضها فلا تستغرب.. فكل الحرمات انتهكت في بلدي..!
لم نخرج طوعا، ما كابدناه أرغمنا على الخروج.. أصبحت أحياؤنا تصلح لكل شيء ما عدا العيش، تلك الباصات الخضراء كانت سوداء بالنسبة للكثيرين، فبالرغم من شعورنا بالخلاص من الموت إلا أن شبح الذكريات المؤلمة ما زال يلاحقنا.. إلى الآن لا أنسى دخول الميليشيات الإيرانية والعراقية الموالية للنظام على أحياء المدينة، أصبحنا ننتقل، أنا وزوجي، من حي لآخر مخافة طغيانهم، لم نكن نخشى الموت بقدر ما كنا نخشى ظلم من لا يعرف الرحمة، النوم لم يجد له عندنا مكانا فغادر المدينة ورحل، الكل ينتظر متى سيأتيه الدور؟
وصلني نبأ استشهاد أخوتي وأبي وأن كل من في الحي ثم إبادتهم بمجزرة جماعية رهيبة، فقدت آخر من تبقى من أسرتي.. لا أدري أأعزي نفسي أم زوجي الذي فقد أهله أيضا، ما عسانا أن نفعل؟ فقدنا الأخ والقريب والصديق وبقينا كشجرة يتيمة في حقل أجرد.
ما يساعدني على الصبر حقا أن زوجي مازال بجانبي يساندني وأسانده، أخاف فقده، أخاف من يوم لا أراه قربي، حين يغادرني لساحات القتال تغادر روحي برفقته لتحميه بدعائها لترد عنه كل شر وأذية، لن أنسى، ما حييت، يوم أتاني خبر بأن المجموعة التي هو برفقتها قد استشهدت أصبحت (كالخوتاء) أركض في الشوارع أبحث عن زوجي بين الجثث المرمية..
حالي كحال الكثير من النسوة اللاتي كُنّ هناك فتلك تقول هذه الرِجل لزوجي وأخرى تقول لا بل لزوجي.. حتى بقايا الجثث أصبحن يتقاسمنها، ما من كلمة تصف شعوري يومها وأنا أبحث وأنظر في الوجوه المشوهة لعلي أرى وجه زوجي للمرة الأخيرة، ولكن رحمة الله كانت بي أوسع، فحينها لم يكن زوجي من جملة الذين استشهدوا يومها بل كان من المسعفين لمشفى لم يعد بمشفى، فالجريح من الأهون عليه أن يموت حين القصف ولا يبقى يعاني شدة الألم مع انعدام المواد الطبية والمختصين لمعالجته، وأنا أبحث سمعت صوتا يناديني من بعيد نظرت لأجد زوجي يومئ لي بيديه ركضت مسرعةً ضممته بين زراعي وبدأت أبكي على صدره بحرقة.. (طبطب) على كتفي وقال لي لا تخافي يا غالية لن أمت وأدعك هنا وحدك، سنتقاسم الموت كما تقاسمنا الحصار.. كما تقاسمنا الحزن والألم..
خرجت برفقته من المدينة في تلك الباصات الخضراء، تاركين وراءنا الدمار.. جثث الأصحاب وبقايا حب ارتسم على الجدران بلون الدم يتعهد بالرجوع إلى هنا يوما ما.
المركز الصحفي السوري – نور سالم