عندما يُطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بفصل المعارضة المعتدلة عن جبهة فتح الشام (النصرة سابقاً) ويأمرها بالخروج الفوري من حلب، فمن الطبيعي أن يأتي الجواب من الحلبيين أنفسهم: لماذا لا تخرج أنت؟ ومن الذي وكّلك أن تطلب وتأمرنا بالخروج؟ أنت محتل غاز، ونحن أصحاب الأرض، ومن حقنا أن ندافع عن أرضنا وعن أعراضنا، ونحن من نحدّد مصيرنا، فإما أن نحيا فيها أو أن نموت.
جاء هذا الكلام من أهالي حلب المحاصرة، والذين ينطبق عليهم اليوم قوله تعالى (المستضعفون في الأرض). كانت هذه الكلمات كفيلة لإظهار عزيمة الصمود، والإصرار لأبناء المنطقة المحاصرة على تعرية الدُّب الروسي أكثر أمام خصومه الغربيين، بهدف توبيخه أكثر أمام الرأي العام، واتهامه مباشرة بأنّه مجرم حرب، ولعلّ السؤال الآن: ماذا تريد روسيا أن تفعل في حلب؟ ولماذا كلّ هذه الهالة الإعلامية التي تخرج من الكرملين، ومن الخارجية الروسية بالإصرار على خروج ما أطلقت عليهم الإرهابيون من حلب؟
منذ تدخلت روسيا في سورية منذ أكثر من عام، وهي تصرّ على أخذ ما تريده بالقوة، فغيّرت المعادلة سياسياً وعسكرياً، وامتلكت زمام الأمور في سورية، وتحوّل الأسد إلى ناطق رسمي باسم الكرملين، وأصبحت تطرح مبادراتٍ وتُلغى أخرى، بما يتناسب مع هواها. وفي الآونة الأخيرة، اتضحت الرؤية أكثر للموقف الروسي من خلال ما ظهر من تواطؤ دولي وعجز مجلس الأمن وإدارة الرئيس الأميركي، بارك أوباما، ظهره لكلّ المنطقة، وترك الساحة السورية للروس، مع استمرار التواصل والغزل بينهما، من تبادل أدوار وإخراج مسرحي بزعامة الوزيرين، كيري ولافروف.
أحرق بوتين حلب مستخدماً جميع أنواع الأسلحة المحرّمة دولياً، بغرض سقوط حلب وإعادتها للنظام بأسرع وقت ممكن، إلا أنّ ما فاجأ بوتين أنّ أميركا لم تستطع أن تغطي وتبرّر له كلّ جرائمه، إذ صدمت أميركا وروسيا بتحرّك دول الغرب، لتبدأ بوادر الانشقاق الدولي تتضح بعد جلسات عدّة لمجلس الأمن بخصوص حلب، لكن بوتين أصرّ على موقفه، وعطّل قرار فرنسي في مجلس الأمن مستخدماً الفيتو في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ما انعكس إيجاباً في توحيد دول أوروبا لتشكيل جدار منيع ضد روسيا التي راجعت حساباتها لامتصاص هذا الغضب الأوروبي، فعاد زخم الحراك الدبلوماسي من جديد، ودخل الملف السوري في دورة جديدة يدور بين لوزان ولندن وبرلين، والنتيجة إعلان هدنة روسية في حلب ثماني ساعات في 19 أكتوبر الجاري، ومُدّدت إلى 24 ساعة بطلب من الرئيس بوتين، والهدنة كانت من طرف واحد أراد منها بوتين إخراج “جبهة فتح الشام” وفتح ست ممرّات لإخراج الجرحى والمصابين، لكنّ هذا لم يتحقّق حتى الآن لفقدان الأمان والضمانات بحسب ما أعلنت الأمم المتحدة.
عندما تعزّز روسيا من وجودها البحري في المتوسط، بوصول سفينة كوزنتسوف المحملة بأكثر من خمسين طائرة برؤوس نووية، لا شك أنّ هدفها من الهدنة ليس خروج جبهة النصرة، فداريا وحي الوعر والمعضمية وقدسيا والهامة تمّ تهجيرهم من دون أن تكون جبهة النصرة موجودة بين الناس.
أما حلب، فهي هدنة عسكرية ومهلة أخيرة، قبل الاجتياح الأخير جواً وبراً، اتخذتها روسيا ذريعةً جديدة أمام الرأي العام، لتقول لهم أنا قمت بما يجب أن أقوم به، ولكن جبهة النصرة لم تخرج، وهو ما صرّح به لافروف قبل يومين، كما ظهر تصريح من مسؤول في حلف الناتو، يقول فيه إنّ روسيا تستعد لشن هجوم كبير على شرق حلب، فالبوارج الحربية والأسطول البحري والأسلحة النووية، من المؤكد أنّها ليست لمواجهة 300 مقاتل من النصرة.
لم تتوان الفصائل في حلب عن الردّ على المكر والخداع الروسي، فقد أعلنت كلّ الفصائل في حلب البقاء والقتال حتى الرمق الأخير، وتوّعدت بفك الحصار عن حلب، وإنهاء وجود النظام فيها، حتى المدنيون قرّروا التمّسك أكثر بأرضهم، ومواجهة كل الصعاب.
أثبت أهالي حلب لكلّ العالم أنّ الهدنة الروسية لم تكن لتأتي، لولا فشل النظام وروسيا في اقتحام المدينة، فالعنف الروسي زادهم عزيمة وإيماناً بنيل الحرية أو الموت في سبيلها.
من المرجح أنّ حلب مقبلة على ملحمة كبرى، ستكون فيها مرحلة حسم وتغيير لكل المعادلة على الأرض، فإما أن تمحى من الخريطة السورية أو تدخل التاريخ بسواعد أهلها.
العربي الجديد – يمان دابقي