بعد فترة وجيزة من اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، تم نشر الترجمة الإنجليزية لمقال الفيلسوفة من أصل ألماني حنا آرندت تحت عنوان “حقوق الإنسان: ما هي؟” وجرى لاحقا دمج هذا المقال في الفصل 9 من كتابها “أصول الشمولية” واعتبرت فيه أن عالمية حقوق الإنسان المفترضة لا يمكن ضمانها إلا من خلال المواطنة أو الجنسية.
ورأت آرندت أن الإعلان نفسه يجسد تناقضا مثيرا للاهتمام، إذ يلزم الدول بحماية الحقوق “العالمية” وغير القابلة للتصرف لجميع البشر، رغم أن المؤسسة الحديثة للدولة مبنية على مبدأ السيادة الوطنية والإقليمية، وهذه المفارقة، حسب رأيها، لا يمكن حلها إلا من خلال الاعتراف بـ “الحق في التمتع بالحقوق” كشرط مسبق لحماية حقوق الإنسان الأخرى، أي يجب ألا يكون الأفراد أعضاء مواطنين أو أعضاء في مجتمع ما ليتمتعوا بالحقوق.
التجربة الشخصية
واكتشفت آرندت ما أسمته “الحق في التمتع بحقوق” من خلال تجربة شخصية مؤلمة، إذ أجبرت عام 1933 مع يهود آخرين على الفرار إلى باريس هربا من تصاعد معاداة السامية بألمانيا. بعد ذلك بسنتين، سنّت قوانين نورمبرغ العنصرية المناهضة لليهود رسميا مما جعلها هي وجميع اليهود الألمان غير معدودين كمواطنين بالرايخ الألماني، أو بطريقة أخرى أصبحوا لاجئين عديمي الجنسية، بحسب مؤلفي كتاب “حق الحصول على حقوق” لستيفاني ديجوير وآلاستاير هانت.
ويرى المؤلفان أن ما أدهش آرندت بشكل خاص أنها بعد تجريدها من الجنسية الألمانية كانت غير قادرة على التمتع بالحقوق التي كان يُعتقد أنها كانت بسبب إنسانيتها وليس بسبب جنسيتها بحسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبعد الغزو النازي لفرنسا عام 1940، تقدمت آرندت بيأس لطلب اللجوء في السفارة الأميركية بمرسيليا الفرنسية. لكن الخارجية الأميركية أوقفت إصدار التأشيرات لآلاف الأشخاص الفارين من النازيين، حتى أنهم خصوا اليهود مثل آرندت بمنع خاص.
ولولا مساعدة دبلوماسي أميركي تحدى توجيهات حكومته وساعد آرندت في تأمين وثائق سفر غير شرعية إلى الولايات المتحدة، لربما لم تكن آرندت لتنجو من الحرب.
وعام 1951، بعد 18 عاما دون جنسية رسمية، تم تجنيسها لتصبح مواطنة أميركية.
وتبدو إعادة التفكير في فكرة “الحق في التمتع بالحقوق” لدى الفيلسوفة الألمانية مهمة للغاية أيضا في اللحظة الحالية بحسب المؤلفين، فهي لا تكتفي بالتفكير في السياسة الشمولية وتحليلها وإنما تناقش حق جميع الأفراد في أن يكونوا أعضاء في مجتمع يمكنهم فيه التمتع بالحقوق.
ومنذ انتخاب دونالد ترامب، ارتفعت مبيعات كتاب حنا آرندت “في أصول الشمولية” وجرت محاولات عدة لمقارنة حقبة ترامب بأفكار الفيلسوفة من أصل ألماني حول الشمولية، بحسب الكاتبين اللذين اعتبرا أن حقوق الإنسان لم تنقذ آرندت من أوروبا، إذ لم يتحسن وضعها إلا عندما تم الاعتراف بها لاجئة ومواطنا محتملا من قبل دولة أخرى.
وقادها ذلك الواقع إلى تحليل مهم خلاصته أن الاعتراف بها من قبل دولة ومجتمع سياسي -وليس مجرد كون المرء إنسانا- هو الأمر الحاسم في وجود حقوق من عدمه.
اختبار حقوق الإنسان
ومن أجل التمتع بالحقوق، حسب رأي آرندت، يجب أن يكون الأفراد أكثر من مجرد بشر، أي يجب أن يكونوا أعضاء في مجتمع سياسي. وفقط بهذه الصفة يمكن للشخص أن يتمتع بحقوق في التعليم والعمل والتصويت والرعاية الصحية والثقافة، وما إلى ذلك.
ولهذا افترضت آرندت أنه قبل أن يتمكن الأفراد من التمتع بأي حقوق مدنية أو سياسية أو اجتماعية، يجب أن يتمتعوا أولا بالحق في أن يكونوا مواطنين في دولة قومية أو على الأقل عضوا في مجتمع سياسي منظم. نظرا لأن الحق في أن يكون مواطنا هو الحق الذي يجعل التمتع بجميع الحقوق المحددة ممكنا.
ووفقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي ظهر عام 1948، يتمتع الفرد بحقوق أساسية ببساطة بحكم كونه إنسانا. وحتى يومنا هذا، يُقال إن حقوق الإنسان متأصلة بسبب وجود البشر ذاته، بغض النظر عن الجنسية أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الأصل العرقي أو أي وضع محدد آخر، لكن ذلك ليس ما يحدث بالواقع.
عالم اليوم
تبدوا فكرة آرندت مثيرة للاهتمام في الوقت الحاضر، خاصة مع تزايد أعداد المهاجرين واللاجئين الذين أجبرتهم الصراعات العنيفة والحروب على الفرار من أوطانهم والتماس اللجوء في بلدان أخرى.
العام الماضي قالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن أعداد اللاجئين الذين اضطروا للنزوح داخل بلادهم أو خارجها وصل إلى 70.8 مليون شخص، وهو أعلى مستوى منذ تأسيس المفوضية عام 1950.
وجاء في تقرير المفوضية السنوي أن النزاع في سوريا، والأزمة السياسية بالكونغو، والحرب بجنوب السودان، والرحيل الجماعي لأقلية الروهينغا من ميانمار، كانت الدوافع الرئيسية للنزوح. وبينما يستذكر الفلسطينيون هذه السنة سبعين عاما للنكبة، لا يزال هناك 5.4 ملايين لاجئ فلسطيني، بحسب التقرير الأممي.
ورغم أن نقد آرندت لحقوق الإنسان وطرحها فكرة “حق التمتع بحقوق” استقبل بحفاوة بالغة في أوساط فلسفية وقانونية بما في ذلك المفكر الإيطالي جورجيو أجامبن والفيلسوف الفرنسي المولود بالجزائر جاك رانسيير والفيلسوف كريستوف مينكه الذي اعتبر أن تصور آرندت للكرامة الإنسانية يفتح الباب للتغلب على أزمة حقوق الإنسان. لكن أرقام اللاجئين المتزايدة وتزايد أعداد الأشخاص المحرومين من الحقوق لأنهم ليسوا مواطنين كاملي الأهلية يوحي بأن رياح الواقع المعاصر تجري بما لا تشتهي سفن النظرية والفلسفة.
المصدر : الجزيرة