يعيش الأهالي وسط مخاوف جدية وترقب لكل ساعة قد تحمل معها كارثة إنسانية وتهجيراً قسرياً، قد يعد الأكبر في تاريخ المدينة منذ بداية الثورة.
ما الذي حدث في مدينة درعا السورية منذ شهرين تقريباً حتى وصلت بها الحال إلى هذه المرحلة؟ وكيف عادت بعد عشر سنوات لتغدو واحدة من المدن السورية الأكثر اشتعالاً؟ ما الذي حصل حتى تتهيأ المدينة إلى واحدة من أكبر عمليات التهجير الجماعية؟
هل المفاوضات هي الأخيرة؟
للعمليات العسكرية في مدينة درعا سببان، أحدهما ظاهري وهو انتقام رئيس النظام السوري بشار الأسد من المدينة التي رفضت التصويت له، وسبب غير معلن يتعلق أساساً بالمصالح المتضاربة لحلفاء النظام وبخاصة الإيرانيين الذين يسعون إلى تعزيز قبضتهم على الجنوب السوري.
تعرضت الأحياء الجنوبية وما حولها خلال الأسابيع الماضية لقصف عنيف بعد حصار دخل شهره الثالث والذي استنزف طاقة الأهالي والعائلات الجائعة التي فقدت أبسط أساسيات الحياة كالخبز والدواء.
وبعد فشل المفاوضات الأخيرة، تعيش آلاف العائلات رعباً من ردّ النظام القاسي وهو ما دفع لجنة المفاوضات عن أهالي درعا الطلب من الجانب الروسي، تأمين عملية تهجيرٍ جماعيّ للأهالي إلى تركيا أو الأردن، رافضة التهجير إلى الشمال السوري.
ويبدو أن روسيا لن تشارك في المواجهات وستبقى على الحياد والسبب الرئيس هو محاولة النظام الروسي الحفاظ على صورته الدولية كعامل إيجابي في الأزمة السورية، ما يمنح بقاءه على الأراضي شرعية أكبر، وهذا هو العامل الإيجابي الوحيد حتى الآن. فلو أرادت روسيا المشاركة ستكون الغطاء الجوي للنظام وستقصف المنازل وهذا يعني هدم المدينة فوق رؤوس ساكنيها، لكن يبدو كما لو أن هناك تضارباً في مصالح الحليفين الإيراني والروسي وقراراتهما، بينما همُّ الأسد الوحيد هو الانتقام من المدينة.
المفاوضات ربما تكون الأخيرة التي يجريها النظام السوري، إذ سيباشر على ما يبدو بعدها عملية عسكرية واسعة في المدينة وهذا أقرب إلى هدف الأسد الحقيقي، فهو غطى على جرائمه المستقبلية بالمفاوضات ليظهر كما لو أنه بذل كل ما في وسعه للتفاهم مع المعارضة السورية، إنما نيته الحقيقية هي القضاء عليها بشكل نهائي في الجنوب السوري.
لماذا فشلت الاتفاقية؟
بينما يتبادل الطرفان الاتهامات بشأن تعطيل المفاوضات، قال الناطق باسم وفد اللجان، المحامي عدنان المسالمة، إن انهيار التفاوض حدث بسبب عناد النظام السوري، بينما أشارت وكالة الأنباء “سانا” التابعة للنظام إلى أن السبب هو تصعيد المجموعات الإرهابية اعتداءاتها في الفترة الأخيرة.
بدأ النظام السوري في 29 تموز/ يوليو الماضي عملية عسكرية في مدينة درعا، لكن تم تعليق القتال لاحقاً من أجل إجراء مفاوضات بين الطرفين بوساطة العسكريين الروس، إلى أن أُعلن راهناً إبرام اتفاق بين الجانبين، يقضي بفك الطوق الأمني عن مدينة درعا وأحيائها الجنوبية، لكن هذا البند لم ينفذ، بينما بدأت بالفعل عمليات تسوية أوضاع المطلوبين لدى النظام وتسليم أسلحتهم. لكن بعد دخول الاتفاقية مرحلتها الثانية، شدد النظام الشروط وجعلها تعجيزية، ومن بينها زيادة عدد النقاط العسكرية التابعة للنظام في المدينة ومطالبة الأهالي بتسليم المزيد من الأسلحة كما منحت المسلحين ساعات فقط لمغادرة المدينة، إلا أن اللجنة المركزية رفضت وجود الجيش داخل المدينة أو تفتيش المنازل بشكل عشوائي. كل هذا ساهم في فشل المفاوضات.
إلا أن إصبع الاتهام الرئيسية توجه إلى إيران التي لا تريد أي نوع من التفاوض مع الأهالي، وتسعى إلى تدخل عسكري عنيف، بدأت بوادره بإدخالها الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد والمدعومة من قبلها وهي أكثر المجموعات المسلحة تدريباً عسكرياً في جيش النظام، إيران تريد إحكام قبضتها على الجنوب السوري بعد سيطرتها على العاصمة دمشق، في حين أن روسيا غير معنية بكل هذا بعد حصولها على نقاطها الثابتة على الساحل السوري.
التهجير القسريّ والانتظار
درعا اليوم غير درعا الأمس، وفي حين قام النظام بقصفها قبل عشر سنوات وقمع تظاهراتها، فقد تبدلت ملامح كثيرة الواقع السوري الآن. الحلفاء الذين يفرضون أنفسهم لن يقبلوا بأقل مما يبغون الحصول عليه، وهذا يضع الأهالي والنساء والأطفال وسط خطر حقيقي، بخاصة بعد تراجع الوجود الفعلي للمعارضة المسلحة القادرة على مواجهة قوتين عسكريتين على الأقل (الإيرانية والسورية).
يعيش الأهالي وسط مخاوف جدية وترقب لكل ساعة قد تحمل معها كارثة إنسانية وتهجيراً قسرياً، قد يعد الأكبر في تاريخ المدينة منذ بداية الثورة، فيما ناشد أهالي درعا عبر رسالة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بضرورة تدخل المجتمع الدولي لحماية أكثر من 50 ألف مدني، حياتهم مهددة بسبب النظام السوري والقوات الموالية له.
وما بين سلامة حوالى 50 ألف إنسان من جهة والنقطة الفاصلة في المواجهات مع النظام من جهة أخرى، يبدو الأمر كأحجية مستحيلة الحل، فالتهجير القسري هو أيضاً أحد أشكال الموت وللمواجهة عواقب قد تكون أكبر مما تتخيل المعارضة، بخاصة في ظل نقص الأسلحة والمقاتلين ووجود الجانب الإيراني الغاضب، والذي ينتظر الفرصة المناسبة ليطلق ذراعه في أحياء المدينة، بما سيكون أقرب للانتقام، إضافة إلى غياب أي دور حقيقي للائتلاف السوري المعارض.
قد تكون كل ساعة يعيشها أهالي درعا بداية أو نهاية لحياتهم، بينما يواصل السوريون محاولة التفاوض مع نظام لا يريد التفاوض في الأصل، نظام لا يريد التعامل إلا بلغة الموت والتهجير، وأمام ديكتاتورية الأسد يغدو المستقبل غائماً ومرعباً.
نقلا عن وكالة درج