دخلت “كتائب حزب الله العراق” مؤخراً، بشكل مباشر، على خط المواجهات في حلب، ضد المعارضة السورية المسماة في بيانات “الكتائب” الرسمية: “فصائل الإجرام في سوريا المدعومة أميركياً”.
وتُعتبر “كتائب حزب الله العراق” تنظيماً جامعاً لبعض الميليشيات العراقية المقاتلة في سوريا كـ”حركة النجباء” و”لواء أبو الفضل العباس” التي تعتبر تشكيلات “تطوعيّة” تتبع لـ”الكتائب”. وكانت “النجباء” و”العباس” قد دخلت على خط المواجهات في سوريا في مطلع العام 2012، تحت ذريعة الدفاع عن “المراقد الشيعية المقدسة”، وخاصة مرقد السيدة زينب والسيدة سكينة ومقام رقّية في دمشق وريفها. وما ترتب على ذلك الدخول من عمليات قتالية الى جانب قوات النظام، على طريق بغداد-دمشق وفي محيط بلدة الضمير، بغية تأمين خطوط الإمداد اللوجستي الواصلة إلى عمق مناطق التمركز الأساسي لتلك الميليشيات في دمشق وريفها.
وتكاثر الوجود الميليشياتي العراقي، بشكل مضطرد، ليشمل معظم الجبهات الساخنة على الأراضي السورية. واستمر توافد عناصر الميليشيات العراقية إلى سوريا، على أساس نهج تعبوي أرضيّته عقائدية دفاعية: “حماية المقدسات”. ولعبت “كتائب حزب الله العراق” إلى جانب “عصائب أهل الحق” و”ميليشيا بدر”، دوراً أساسياً في تجهيز المليشيات العراقية في سوريا، وتدريبها. وعمدت تلك القوى لإلحاق العناصر العراقية بفصائلها العاملة في سوريا ذات الاسماء المستعارة، نظراً لحساسية الاعتبارات السياسية للتنظيمات الأمّ داخل العراق، الأمر الذي يمنعها من الإعلان الصريح عن تبعية المليشيات المقاتلة في سوريا لها. ويندرج في ذلك بشكل رئيسي “منظمة بدر” و”العصائب” اللتان تُعدّان جزءاً من العملية السياسية الراهنة في العراق، ومكوناً من مكونات السلطة الحاكمة.
بينما تحافظ “كتائب حزب الله العراق” على استقلالية سياسية وعسكرية، تجعلها منفصلةً عن الأطر السياسية الحزبية، ومجردة من الاعتبارات القانونية وفق القانون العراقي للأحزاب. وذلك خلافاً لبقية الميليشيات العاملة على الساحة العراقية، التي اكتسبت شرعية سياسية بإنشائها أحزاباً سياسية مرخصة، وشرعية عسكرية بعد فتوى “الجهاد الكفائي” التي أصدرتها المرجعية الشيعية في النجف ضد “تنظيم الدولة الإسلامية”. هذا التمايز لـ”كتائب حزب الله العراق” عن المليشيات التي يجمعها الدعم الإيراني المعلن، تفسره مجموعة من الوقائع والاستنتاجات، توضح موقع “الكتائب” لدى النظام الإيراني ودورها الوظيفي المتمايز عن بقية التشكيلات المليشياتية. وتعدى دور “كتائب حزب الله العراق” الداخل العراقي، لتدخل بجسدها العسكري الاحترافي وترسانتها واسمها الصريح، ميدان الحرب في سوريا، بعدما استُنفِذَت قُدرات تشكيلاتها المستعارة ذات القوام التطوعي التعبوي المفتوح.
اذاً من هو “حزب الله العراق”؟ ولماذا تأسس وما هو تمايزه عن بقية التشكيلات الميليشياوية الشيعية، وما الذي يجعل تدخله في سوريا نوعيّاً؟
بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، نتيجة الإحتلال الأميركي عام 2003، عجّت الساحة العراقية بالكثير من التشكيلات الميليشياوية “الشيعية”. ولم تكن جميع تلك التشكيلات وليدة الظرف الفوضوي الذي نجم عن سقوط الدولة العراقية، إنما وفر لها ذلك الظرف مساحة حرة لممارسة نشاطاتها، وتكريس قواعدها العسكرية والمؤسساتية داخل المجتمع العراقي، حيث أن معظم الميليشيات كانت قد أُنشئت في إيران إبان الحرب العراقية/الايرانية في عقد الثمانينات. ويذكر هنا “فيلق بدر” الجناح العسكري لما عُرف سابقاً بـ”المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق” بقيادة آل الحكيم، وبقوام كادريّ من عراقيين لجأوا إلى إيران بعد تولي “حزب البعث” السلطة في البلاد، ليعودوا بعد سقوطه مشكلين “المجلس الإسلامي الأعلى” كحركة سياسية تعد اليوم ركناً أساسياً من أركان التحالف الشيعي الحاكم، مع الحفاظ على ذراعها الميليشياتي مستتراً ضمن الجهاز العسكري للدولة الجديدة. الأمر ذاته ينطبق على تشكيلات ميليشياوية أخرى كتلك التابعة لـ”حزب الدعوة” الحاكم.
المختلف من حيث النشأة والتكوين هو “جيش المهدي” التابع لرجل الدين مقتدى الصدر، حيث تشكل لـ”مقاومة” الاحتلال الأميركي في أواخر العام 2003، مستنداً إلى خزان بشري من أبناء ضواحي بغداد المعروفين تاريخياً بالولاء للمرجع محمد صادق الصدر، والد مقتدى. وقد تعرض “جيش المهدي” إلى الكثير من حالات الانشقاق أسفرت عن ولادة تشكيلات ميليشياتية متعددة، بدعم من أقطاب سياسية شيعية، مثل “عصائب أهل الحق” التابعة لنوري المالكي زعيم “حزب الدعوة” ورئيس الوزراء السابق.
الحرب ضد “تنظيم الدولة الإسلامية”، انعشت الكثير من القوى الميليشياتية، وأسهمت في ولادة تشكيلات جديدة، بعدما أعطت فتوى “الجهاد الكفائي” الشرعية الدينية المشجعة على ذلك. وساهمت الفتوى في تضخيم وتمدد التشكيلات القديمة، وتغولها على أجهزة الدولة العراقية، مستمدة مصادر تمويلها من مقدرات البلاد ومداخيلها، ما جعلها المتحكم الأساسي بالواقع الميداني والسياسي في البلاد. الأمر الذي وفّر لايران الداعمة للمليشيات، حجماً مهماً من الهيمنة على الدولة العراقية.
إلا أن حالة الشد والجذب بين اعتبارية الدولة العراقية ذات الشرعية القانونية، وحالة التغول الميليشياتي، واستثمار القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على العراق، كشف الستار عن مشروع إيراني قديم جديد، أداته ميليشيات من نوع متمايز من حيث البنية والوظيفة، ميليشيا كاملة الإستقلال عن أي تشكيل سياسي محلي، وفوق أي اعتبارية قانونية أو ارتباط مالي وتنظيمي داخلي، ولا تنتمي إلى إطار ما بات يعرف عراقياً بـ”الحشد الشعبي”. وأبرز تلك المليشيات هي “كتائب حزب الله العراق”، التي تعتبر دولة مستقلة مالياً وعسكريا داخل الدولة العراقية، لا تتأثر بعواملها الاقتصادية والسياسية.
نشأت “الكتائب” على أرضية تصدير “الثورة الإسلامية الإيرانية”، ما قبل احتلال العراق 2003. وبرز اسم “الكتائب” مصحوباً بشعارات المقاومة والتصدي لمشروع الاستكبار الأميركي، إلا أن مصادر الحزب ذاته تشير إلى أن التأسيس يعود إلى مطلع الثمانينيات. أي أن عمر “الكتائب” تقريباً من عمر “الجمهورية الإسلامية” في ايران. وتحمل “الكتائب” أهدافاً إيرانية في إقامة حكم إسلامي مسترشدة بحكم “الولي الفقيه”، كما يوضح عضو الهيئة التأسيسية في الكتائب جاسم الجزائري. ويضيف الجزائري بأن “حزب الله تشكيل ولائي يقاوم الطغيان ويسعى لثورة إسلامية متجاوزة للحدود الوطنية والقومية”. وهو في ذلك يختلف عن بقية القوى السياسية والميليشياتية الشيعية، التي حددت إطار عملها وفق الدستور “الوطني” لدولة العراق، وتسعى لإقامة حكمها الطائفي ضمن حدودها.
وعلى ضوء أهداف “الكتائب”، بُني هيكلها التنظيمي والعسكري المستقل عن أي محددات محلية، سوى تلك التي تخدم انطلاقتها لتنفيذ أهداف المركز الإيراني.
لـ”الكتائب” قوة عسكرية ضخمة، ومعامل لتصنيع الذخيرة والمعدات، وهي بذلك مختلفة عن بقية التشكيلات الميليشياتية التي تعتمد حالياً على مخزون الجيش العراقي، باعتبارها جيشاً رديفاً له في مقاتلة “تنظيم الدولة”. وهذا ما كشفته “الكتائب” مراراً في استعراضاتها العسكرية في بعض مدن الجنوب وشوارع بغداد، وما ظهر فيها من صواريخ ومعدات مصنعة محليّاً واخرى مطورة عن منظومات صاروخية معروفة كالغراد والكاتيوشا. ولا تخفي “الكتائب” تميزها في هذا المجال، حتى عن الجيش العراقي الرسمي، من ناحية القدرات الهندسية في التطوير والابتكار، والتي يفتقدها الجيش العراقي الحالي، ما يجعله رهينة للدول المصدرة للسلاح، بحسب قول القائد لمجموعة عسكرية في “الكتائب” أبو كرار.
أبو كرار، قال لـ”المدن” إن “الكتائب” تعتمد على “خبرات فنية عريقة في مجال صناعة الصواريخ والعبوات الناسفة، وكفاءتها في الإنتاج أقر بها المحتل الأميركي إبان فترة المقاومة”. وقد تجلّت تلك الخبرات في صواريخ من طراز “الاشتر” ذات القدرة التدميرية الكبيرة. ويضيف أبو كرار “للكتائب ترسانة كبيرة من الراجمات وحافلات نقل العناصر، بالإضافة الى دبابات استولت عليها من مخازن الجيش العراقي السابق وتستخدمها الكتائب على جبهات الحرب ضد تنظيم الدولة”، مبيناً أن للكتائب فاعلية كبيرة لا غنى عنها على جبهات القتال، ما يجعل الجيش العراقي وفصائل “الحشد الشعبي” تعتمد عليها في حسم المعارك الصعبة كما حدث في معركة أمرلي في محافظة صلاح الدين.
ولا تخفي “كتائب حزب الله العراق” علاقتها بـ”حزب الله” اللبناني، ودائماً ما تعلن عبر وسائل إعلامها عن تعاون في مجالات متعددة، ومنها المجال العسكري. وتتخذ “الكتائب” من اسم القائد العسكري السابق في “حزب الله” اللبناني “عماد مغنية” عنواناً لأحد معسكراتها الواقعة شرقي بغداد. كما تتشابه بنية “حزب الله العراق” العسكرية والتنظيمية مع نظيره اللبناني، ويتطابقان من حيث البنية العقائدية ويتعاونان في تكريسها تربوياً عبر عمل مكثف في هذا المجال.
في العام 2011 أسست “كتائب حزب الله العراق” جمعية “كشافة الامام الحسين” وهي النسخة العراقية من “جمعية الامام المهدي” التابعة لـ”حزب الله” اللبناني، وترتبط الجمعيتان بعلاقة شبه عضوية، تقيمان خلالها دورات تأهيلية للناشئة “على قيم و مبادئ العقيدة الإسلامية”، لـ”تربية جيل عقائدي مسلح بالبندقية والإيمان”. وترسل “كشافة الإمام الحسين البعثات التدريبية والتأهيلية إلى لبنان وإيران وفق برامج سنوية، وتقيم سنوياً للمتخرجين مهرجاناً جماهيرياً في بغداد.
ولـ”الكتائب” عدد من المؤسسات المعنية بالشؤون الثقافية والدينية والنسوية، ومنها مؤسسة “النخب الاكاديمية”، ومؤسسة “الزينبيات النسوية”.
على الصعيد المالي، يتقاضى منتسبو “الكتائب” مرتباً شهرياً يصل إلى نحو 500 دولار للمقاتل، وتوفر “الكتائب” لمنتسبيها، مميزات على صعيد الرعاية الطبية، عبر عدد من المراكز الصحية المنتشرة في عدد من المناطق العراقية. وتعتمد “الكتائب” في التمويل على عدد من الأنشطة الاقتصادية، كالمؤسسات التجارية ذات التخصصات المتنوعة، ولها عدد من شركات التحويل المالي في كربلاء، فضلاً عن مؤسسات السياحة الدينية التي تجلب زواراً من الدول الإسلامية إلى العتبات المقدسة في النجف وكربلاء وبغداد، عدا عن الدعم المالي المقدم من إيران والمستمر منذ تأسيسها.
تميل معظم الآراء المطلعة على تاريخ “الكتائب” وبنيتها وانشطتها في الداخل والخارج العراقي، إلى اعتبارها رأس حربة في مشروع تصدير الثورة الإيرانية، والذراع العسكرية الرئيسية والأكثر قوة والأشد انتماءاً “ولائياً وعقائدياً” للمشروع الإيراني في المنطقة، وجزءاً من منظومة، تستخدمها إيران في معاركها الصعبة، والتي تشكل سوريا اليوم أبرزها. وهذا ما يفسر الزج بـ”الكتائب” في أتون الحرب على الجبهات ذات الاهمية الاستراتيجية الكبرى في حلب والقلمون السوري، بعد الخسائر الميدانية الكبيرة التي لحقت بقوات النظام والميليشيات الاخرى فضلا عن الخسائر البشرية في صفوف القوات الإيرانية.
لـ”الكتائب” جملة من العمليات التي تتعدى اهدافها القضايا الداخلية العراقية، ويذكر هنا عملية خطف العمال الأتراك في أيلول/سبتمبر، عبر مجموعات أطلق عليها “فرق الموت” وكان هدفها فك الحصار عن بلدتي الفوعا وكفريا الشيعيتين في سوريا. بالإضافة للاستهدافات المتكررة لمقرات اللاجئين الإيرانيين المعارضين للنظام الإيراني في العراق، وكان آخرها القصف الصاروخي على معسكر “ليبرتي” الواقع على مشارف مطار بغداد الدولي، قبل أيام.
المدن