حازم نهار – العربي الجديد
في حادثة شهيرة، عندما عاد الرسول من غزوة تبوك، قال: “رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر”، فسألوه: “وما الجهاد الأكبر؟”، قال: “مجاهدة العبد هواه”، فهي أعظم الجهاد وأكبره، لأن قتال العدو فرض كفاية، بينما جهاد النفس فرض عين على كل شخص في كل وقت. الجهاد الأصغر هو جهاد العدو المباين، والجهاد الأكبر هو جهاد العدو المخالط، فالنفس أعظم خطراً من غيرها، لأنها ملازمة لصاحبها، متصلة به لا تفارقه، وتأمره من داخله، فلا فكاك له منها.
واستخدم إلياس مرقص المعنى نفسه “جهاد النفس وجهاد المعرفة”، عندما أراد الانتصار للعقلانية على الصعيد المعرفي، وكثف معنى الجهاد بالنقد، نقد الذات ونقد الموضوع، على اعتبار أن النقد هو أبرز خصائص العقل/الفكر الذي لا يني يثبت وينفي إلى ما لا نهاية. فالعقلانية في الفكر، بهذا المعنى، هي الجهاد من أجل الحقيقة، بوصفها مقاربة الفكر لموضوعه، وإعادة بنائه في ضوء تغيرات الواقع، ومسعىً دائماً من أجل وحدة الفكر والواقع، بما يخلق بشكل مستمر أسساً معرفية جديدة للعمل البشري، السياسي والاجتماعي.
معنى الجهاد: “بذل الوسع”، أي النشاط الذي يبذله الفرد في تطويع نفسه لأداء الضرورات وترك المكروهات، أو المجاهدة المضنية في الخضوع لمقتضيات الحقيقة، وتجنب الإغراءات أو أهواء النفس المضادة للصالح العام. إن مجاهدة النفس، وإرغامها على السير في صراط الإخلاص للحقيقة، وكبح جماحها من أن تذهب بعيداً من المصلحة العامة، أمر شاق ولازم ومستمر: شاق لما جبلت عليه النفس الفردية من عشق للانفلات غير المحدود بالتعارض مع المصلحة العامة، وشاقٌّ لأن الواقع لا ينفك عن الحض على التمرد، بشتى الأساليب والوسائل، على ما تعارفت عليه البشرية من محظوراتٍ ضد الصالح الوطني أو العام. وهو أمر لازم، أيضاً، لأنه لا مندوحة للفرد، خصوصاً السياسي، إذا أراد أن يكون قريباً من الحقيقة الواقعية– من أن يحارب هذه النفس الأمارة بالسوء، “إنّ النفس لأمارة بالسوء” يوسف: 53، ويقف ضد غرورها وافتتانها بما هو لحظي ومؤقت. وهو أمر مستمر كذلك، ما دام الإنسان حياً، لأن النفس ملازمة له، ودأبها الإكثار والإلحاح على صاحبها في أن يقوم بالمنكر القبيح أو المضاد للحقيقة. إنها تأمره بما تهواه، وتصده عما يقبله العقل في كل لحظة، فإذا انقطع عن مجاهدتها أوقعته في لحظة فيها هلاكه وحتفه.
شروط نجاح المجاهدة في الحيز السياسي يمكن أن نجمله في مطلبين. الأول: تقوية صلة هذه النفس بالفكر، وطرد جهلها بالمعرفة، فالجهل من أعوان النفس الأمارة بالسوء، والمعرفة من أعظم الأسلحة التي تعين على جهاد النفس. الثاني: قرار النفس الحاسم في الإخلاص للحقيقة والمصلحة العامة، ولا شيء سواهما، وإرغامها على أداء سياسي يتوافق مع ذلك، وبديل ذلك هو فساد الإرادة الذي ينتج بالضرورة فساداً في الأداء السياسي.
من أعظم ما يعين السياسي على نفسه، علمه بأدوائها، ومعرفته بالواقع والتاريخ. فالنفس في حاجة إلى الصبر والتحلي بسمة طول النفس. بالمعنى الديني، لا فلاح للمرء إلا بتزكية نفسه، كما جاء في القرآن، الشمس: 9-10، “قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دساها”. النفس في حاجةٍ، أيضاً، لتعلم قوانين الواقع والتاريخ، وإدراك أهمية مفاعيل الزمن، فالزمن وما يتعلق به من أحوال تاريخية وواقعية حاسم في تحديد حدود قدرات البشر على الفعل، في لحظة ما، وهذا يجعل السياسي عارفاً بما هو ممكن وغير ممكن في لحظة ما، بما يعفيه من الازورار عن حقائق الواقع، وممارسة التضليل السياسي للبشر.
“ |
قد يقفز، هنا، أحد “الشطار” الذين اكتشفوا حديثاً مقولة “نسبية الحقيقة”، متسائلاً من الذي سيحدد الحقيقة في لحظة ما. بالطبع، ليس المقصود من تعبيرنا “الإخلاص للحقيقة” أن هناك حقيقة تفصيلية محددة سلفاً من جانب فرد أو جهةٍ ما، وما على الآخرين سوى الالتزام بها، إنما المقصود أن تكون الحقيقة بمعناها العام، والمصلحة العامة، هما بوصلة السياسي على حساب النوازع الذاتية وأهواء النفس. أليس من الشائع أن يكون السياسي عارفاً بالحقيقة، في لحظة ما، ومع ذلك يعمل ضدها؟!. من جانب ثانٍ، تتحول “نسبية الحقيقة” إلى فوضى سياسية وأخلاقية، وتنتج حالة من العدمية وعدم التعيين، إذا لم يكن “المطلق” حاضراً في الذهن، فمن ليس في حياته “مطلق” ما، سيحوِّل “نسبيه” بالضرورة إلى مطلق.
مجالات مجاهدة النفس عديدة بالنسبة للسياسي. فالنفس الفردية مشحونة بحب العلو والرياسة والظهور والثراء، وتلك أهواء طبيعية مشروعة. لكن، ثمة حفر عديدة في الحقل السياسي، يمكن أن يقع فيها المرء في هذا السياق، إن لم يكن هناك معالجة سوية وحازمة لهذه الأهواء. فقد يسعى إلى الفوز بـالمكانة المرموقة، أو الموقع السياسي، بطريقةٍ غير ديمقراطية وشرعية، أو يتنطّع لمنصب أكبر من طاقاته وقدراته الفكرية والسياسية، أو قد يدخل في نفق المؤامرات الشخصية، بغية تحقيق مراده، لينجر، بالتالي، إلى ساحة “المهاترة” والتشهير الشخصي، ويغرق في أتون المعارك الصغرى التي تفقده البوصلة السياسية الرزينة، والعمل في سبيل الصالح العام، وهذه كلها تنم عن فساد إرادته، وعمى بصيرته، وفشله في معركة جهاد النفس في آن معاً. ومن أجل الحصول على الحظوة، قد ينتهج خطاباً شعبوياً، وهذا قد يكون بسبب الجهل (خطاب شعبوي جاهل) أو سيطرة الأيديولوجية على العقل (خطاب شعبوي أيديولوجي)، وكلاهما من أسوأ الممارسات السياسية، أو قد يكذب على البشر، فيبث تفاؤلاً غير حقيقي في لحظة ما، أو يدّعي تمثيلاً مزوراً لهم، أو يقدم وعوداً ومواعيد ليست بيده.
قد تفرح وتفخر النفس الهشة ببناء علاقات فردية مع الدول وممثليها ووزرائها وسفرائها، من دون الانتباه إلى أن سياسات الدول يمكن أن تتغير، وأنها لا تكترث كثيراً بالأفراد الذين لا يمثلون مؤسسات سياسية واضحة ومتماسكة ووازنة، بل تسعى لتحويلهم تدريجياً إلى دمى بيدها. وقد يصبح الظهور الإعلامي هاجساً للنفس الخفيفة بقصد كسب الشعبية، التي تفتقد إلى شجاعة رفض اللقاء الإعلامي عندما ترى أنه لا فائدة منه أو أنها ربما تشوش أو تسيء، متعامية عن حقيقة أن الإعلام لا يبني قيمة للمرء إذا لم يكن بالأصل صاحب قيمة في مستوى ما من مستويات الحياة. وقد تقع النفس غير المحصنة فريسة الإغراءات المادية، أو ربما تدخل في علاقات مالية مشبوهة، أو تقبل تلقي المال نظير خدمات سياسية أو لقاء خدمة البشر، فتتنازل عن فكرة الاحتفاظ بعملها الخاص كمورد للعيش.
ليس من السهل مقاومة أهواء النفس وأعوانها من دون تحصين الذات بالمعرفة والأخلاق بحسب ما قاله إلياس مرقص، مرة، “الفكر والأخلاق جناحا العمل السياسي”. لكن، من المهم ألا نفهم “جهاد النفس والمعرفة” في إطاره الأخلاقي أو الدعوي، فحسب، بل إنه، أساساً، شرط لرؤية سياسية بعيدة النظر، ولأداء سياسي في الطريق القويم. ألا تعود حالة التفسخ التي تضرب عميقاً داخل معظم القوى والتجمعات السياسية والأفراد في سورية، في جزء غير هينٍ منها، إلى الفشل في “جهاد النفس والمعرفة”؟! صحيح أن للمأساة السورية بمستوياتها كافة، وحالة الإحباط المرافقة التي غزت الأنفس، دورٌ رئيسي في استشراء التفسخ السياسي، لكن، مع ذلك، يبقى النجاح في “جهاد النفس والمعرفة” أمراً مركزياً لإعادة إنتاج مشروع وطني سوري، يتجاوز المشاريع الذاتية والشخصية والفئوية المحدودة وضيقة الأفق.