منير الخطيب – الحياة
تجاوزت إرادة الحرية عند السوريين، بعد مضي أربع سنوات على انطلاق ثورتهم، الأسطورة السيزيفية المشهورة، وكما أن سيزيف قضى قبل أن يستطيع إيصال الصخرة إلى أعلى الجبل، كذلك فإن السوريين لم يصلوا إلى الحرية وإلى الدولة الوطنية، على رغم إراداتهم السيزيفية وإسقاطهم مرتكزات “الدولة التسلطية”. ولكن، لماذا استهزأ التاريخ بتلك الإرادات؟ ولماذا سحقت “قاطرته العمياء” أحلام السوريين وتطلعاتهم ودفعت جميع عفاريت الأرض إلى اللعب على المسرح السوري؟ شاء التاريخ أن يدفع حزمة من التحولات الكونية التي هندسها في القرن العشرين، في مواجهة ثورة السوريين. تفاعلت تلك التحولات مع العمارة المجتمعية والبنى الثقافية – السياسية المتأخرة التي ساهمت في إعادة تشكيلها “الدولة” البعثية ذات الملامح السلطانية المحدثة، فأنتجت عناصر فتكت بنزوع السوريين البروميثيوسي نحو الحرية، وقد تملّكهم من بداية ثورتهم السلمية.
فكان على الثورة السورية أن تتحمل تبعات انطلاقها في زمن ارتباك أميركي، ولحظة تحول في الاستراتيجيات الأميركية تجاه قضايا المنطقة، وفي سياق ضمور البعد الديموقراطي – التنويري للغرب وانحسار دوره الكوني، قياساً إلى دوره في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ما أعطى زخماً إضافياً للقوى المتأخرة ثقافياً وسياسياً، سواء كانت دولاً أم تنظيمات، أن تصعد وتملأ الفراغ الذي أحدثه الانكفاء الأميركي والانحسار الغربي، وبرز ذلك جلياً في القضية السورية.
وكان على السوريين وثورتهم مواجهة الأطماع الإمبراطورية للقيصر والمرشد معاً. فالأول، أراد أن يعيد لروسيا دوراً عالمياً على أنقاض حطام الاتحاد السوفياتي السابق من البوابة السورية. والمرشد أدرك أن كسر مشروع الهيمنة الإيراني على المشرق العربي في حلقته السورية يعني انحساره في كامل الإقليم، فوقف الاثنان بكل قوتهما خلف آلة البطش والقتل للسلطة السورية، ومنعا الحسم العسكري، في الوقت الذي منعا فيه الحلول السياسية.
وكان على السوريين وثورتهم، أيضاً، مواجهة آثار انهيار “دور سورية الإقليمي” في المشرق الذي كان من مكونات الهيمنة الشمولية للسلطة، وما نجم عن هذا الانهيار من زيادة في حجم التدخلات الإقليمية في الوضع الداخلي السوري، وانفلات القوى الميليشياوية التي شكل النظام السوري، في ما مضى، مايسترو لها، كي تعيث تدميراً وتخريباً في الواقع السوري، وتساهم بفاعلية في زيادة وتيرة تشظي “المجتمع” وتسعير منطق الحرب الداخلية، وتحولت السلطة التي كانت تتباهى بـ “دورها الإقليمي”، إلى تركة “الرجل المريض” التي يجب اقتسامها من جانب الدول الإقليمية وميليشياتها.
كذلك، واجه السوريون ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ: وهي العداء المطلق ما بين السلطة و شعبـ “ها”. فللمرة الأولى في التاريخ، تشهد البشرية سلطة تدمر العمران وتقتل البشر بهذه الطريقة الاقتلاعية، وبمختلف صنوف أسلحة التدمير والقتل، ما سبب خروج غالبية المنادين بالحرية والتغيير السلمي – الديموقراطي من ميدان الفاعلية المجتمعية، ونمو التنظيمات المتطرفة وتَراكبها مع التدخلات الإقليمية والانقسامات العمودية، فتحولت سورية إلى ساحة تتصادم فيها الهويّات.
إن انتقال الثورة السورية من مستوى تكتل السوريين حول مسألة الحرية إلى مستوى الفوضى الراهن وحرب الجميع على الجميع، لا يلغي مشروعية الثورة الأخلاقية والتاريخية والسياسية، بمقدار ما يؤشر إلى قوة عوامل التاريخ التي أمسكت بخناق السوريين، وأيضاً، على عمق أزمات عالمنا المعاصر في ظل إدارة أميركية ركيكة تخلت عن مسؤولياتها كدولة عظمى.