عندما اندلعت أحداث الثورة السورية في مهدها الأول درعا البلد في شهر آذار من العام 2011م, بدأت مرحلة جديدة من عمر سوريا والشرق الأوسط, وحتى العالم, حيث كانت هذه الثورة امتداداً لما يعرف بثورات الربيع العربي التي اجتاحت عدداً من الدول العربية التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية تقوم على أساس الحكم الشمولي العام, فالرئيس الحاكم أو الحزب القائد, هم مصدر التشريع وله الصلاحيات الكاملة بالهيمنة على كل مفاصل السياسة ومقدرات الدولة الاقتصادية ضمن دائرة ضيقة لا تتسع إلَا للأشخاص والجماعات المشكلة للدعائم الأساسية لتلك الأنظمة الحاكمة.
صحيح أن تلك الثورات التي نجحت مرت بمرحلتين أساستين, انتهت المرحلة الأولى بإسقاط تلك الأنظمة الحاكمة في كلٍ من تونس وليبيا ومصر واليمن, إلاّ أن المرحلة الثانية وهي الأخطر من عمر هذه الثورات لم تنته حتى الآن, ولا يستطيع أشد القارئين للوضع السياسي العربي تدقيقا تمحيصا بل وتكهنا أن يتنبأ بتاريخ انتهاء هذه المرحلة, لأنها مرحلة ذات بعد أعمق من المرحلة الأولى وتستهدف استئصال ما يسمى بالأنظمة العميقة الحاكمة, وبمعنى آخر هي مرحلة إسقاط الهيمنة الاستعمارية والتبعية “العمياء” عن طريق تحكم الأنظمة العميقة الممثلة لدور وكلاء المستعمر الجديد – القديم في المنطقة العربية.
لذلك نجد أن تلك الأنظمة الاستبدادية استطاعت تجميع صفوفها من جديد, وعادت إلى الواجهة بأشكال أخرى, وأن نتائج ثورات الربيع العربي لم تكن إيجابية بالشكل الذي أرادته الجماهير العربية الثائرة, بل تم الالتفاف عليها وخطف “ثمرة” ثورات الربيع العربي, من قبل تلك الأنظمة العميقة بحيث تستطيع في وقت قصير أن تعيد بناء الواجهة السياسية لها من جديد لتعود إلى المشهد, ولا شك أن تلك الأنظمة العميقة هي:
مجموعة الأشخاص الذين يعملون خلف الستار ويفرضون خططهم عن طريق السيطرة على بعض المفاصل الاقتصادية والمالية والعسكرية في بلداننا العربية.
وقد ظهر هذا الأمر جلياً في كل من مصر واليمن, ففي مصر تمكن العسكر بقيادة “عبد الفتاح السيسي” من إعادة فرض قيود الديكتاتورية من جديد بأسلوب إعادة صنع وسائل الهيمنة بمساعدة الأطراف والدول الاستعمارية ذات المصالح غير المنتهية لها في منطقتنا, أما في اليمن, فقد كانت تلك التسوية السياسية التي انتهت بتخلي “علي عبد الله صالح” عن السلطة بمثابة اللعبة الخفية التي منحت النظام العميق في اليمن والذي أثبت أنه يعمل بأجندات خارجية إقليمية بامتياز, الوقت الكافي لإعادة تشكيل تحالفاته من جديد, وفي كلا الحالتين المصرية واليمنية هناك من يقول إن الشكل الجديد للواجهة الديكتاتورية القديمة كان أكثر سوءاً من الشكل السابق, وتمكنت تلك الأنظمة العميقة من إعادة عجلة الثورة إلى الوراء ووقوفها عند نقطة الصفر من المرحلة الأولى وهي مرحلة إسقاط رؤوس الأنظمة.
أما في كلٍ من تونس وليبيا, لم يكن الوضع بأفضل حالاً من مصر واليمن, حيث بقيت صكوك الانتدابات والوصايا من قبل الدول الأوروبية وأمريكا, حاضرة وبقوة في المشهد السياسي في هاتين الدولتين, وكان للعامل الاقتصادي المنهار فيهما الدور البارز في إعادة صياغة تحالفات حزبية مدعومة من الخارج, ولم تستطع تلك التحالفات والائتلافات الحزبية أن تخرج عن دائرة الوصاية المرتبطة بالدعم الاقتصادي لخزائن هاتين الدولتين, مع ميزة جديدة وهي أن المرحلة الحالية في هاتين الدولتين هي مرحلة تتميز بالفوضى الذاهبة تجاه النفق المجهول وخصوصاً في ليبيا.
وبالعودة إلى الثورة السورية التي انطلقنا منها, نجد أن المشهد السوري هو مشهد بعيد في كل تفاصيله عن المشاهد السابقة في دول الربيع العربي الأخرى, فالمرحلة الأولى من الثورة السورية لم تنته حتى الآن, ولا تبدو أدواتها موجودة كالحسم العسكري, أو التسوية السياسية, فالصراع العسكري في سورية مستمر, بل يتخذ يوما بعد يوم وضعاً أكثر تعقيداً, نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية العديدة في الساحة العسكرية السورية, أما المشهد السياسي فيبدو بعيداً كل البعد عن الدخول في باب التسويات السياسية والمفاوضات وذلك بسبب تعنت الموقف السياسي الروسي الداعم للنظام والذي يعتمد على شراء الوقت من أجل المراهنة على صنع حسم عسكري على الأرض , في حين أن الدول الأخرى الداعية إلى فرض التسوية السياسية في سورية, هي دول مستسلمة إن صح القول لنتائج التعنت الروسي في المشهد السياسي السوري.
لذلك لم تعد المراهنة على نتائج المرحلة الأولى من الثورة السورية هي محط جدال الآن كما كانت في بدايتها بعد أن دخلت البلاد في دوامة من العنف لا تبدو لها نهاية في المدى المنظور, أو بمعنى آخر لا يراد لها أن تنتهي, أما المرحلة الثانية من مراحل عمر الربيع العربي فهي مختفية تماماً في المشهد السوري, وهي كما ذكرنا مرحلة إسقاط التبعية والهيمنة, بسبب اختلاط الأوراق في كل من المرحلتين على الأرض السورية, فالهيمنة الروسية الإيرانية في سورية تكاد تكون اليوم في أجلى صورها.
لذلك على الثورة السورية أن تدرك جيداً, أنها أمام حالة معكوسة مقارنة مع الثورات العربية الأخرى فعليها أن تبدأ بالمرحلة الثانية لإسقاط الهيمنة في سبيل إسقاط النظام والانتهاء من المرحلة الأولى.
نحن اليوم أمام تحدٍ كبير مفاده: هل تنجح الثورة السورية في أصعب اختبارات الربيع العربي؟!
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود