لم تتأخر موسكو كثيراً في الرد على التحية التركية، عندما أعلن بوتين أن بلاده ترحب بإعادة العلاقات إلى سابق عهدها، مع بعض التحفظ حول وجود ما ينبغي أن تفعله أنقرة أولاً. وسارع الرئيس التركي، مرة أخرى، للإعلان أنه تسلم رسائل موسكو الانفتاحية، فأمر بإدراج اسم السفير الروسي في أنقرة، ألكسندر كارلوف، على لائحة المدعوين للإفطار الرئاسي الذي أقيم لأعضاء السلك الدبلوماسي في تركيا، ليأتي الرد الإيجابي بقبول الدعوة الذي لم يكن ليتم من دون موافقة الكرملين مباشرة. ثم جاء دور موسكو، هذه المرة، مع قرار وزارة الدفاع الروسية إشعال الضوء الأخضر أمام طائرات استطلاع تركية بالطيران في الأجواء الروسية وفق اتفاقية “الأجواء المفتوحة”، على الرغم من أنّ تركيا رفضت طلباً روسياً مماثلاً في فبراير/ شباط الماضي، ليعقبه، على الفور، إعلان نائب وزير الخارجية الروسي، فايلي نيبنزيا، أن بلاده وجهت الدعوة لتركيا لحضور اجتماع منظمة التعاون الاقتصادي لدول البحر الأسود، في مدينة سوتشي جنوب غرب روسيا الشهر المقبل، تاركا الباب مفتوحاً أمام جلسة مباحثات تركية روسية مباشرة، في حال حضور وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو القمة.
باتت المسألة أكثر وضوحاً حول تقدّم لغة الانفتاح على أسلوب التصعيد والانغلاق في البلدين. ويستخدم الرئيس التركي نبرةً لا تُقارن بنبرة ما قبل سبعة أشهر من التحدّي والتهديد والوعيد “لا نعرف ما تتوقعه موسكو، لدي صعوبات في فهم الخطوة الأولى التي ينتظرونها”. ويذكّر بوتين الأتراك، في زيارته اليونان أخيراً، بأن “روسيا لم تفكّر مطلقاً في الذهاب إلى الحرب مع تركيا، لكن الأمر لم يقتصر على طائرتنا التي أسقطت، بل قتل طيارنا أيضاً. تلقينا تفسيرات، ولكن لم يصل إلينا اعتذار”. هل يعني هذا التطور أن تركيا جاهزة لمد يدها أولاً نحو روسيا، وأن ذلك لن يفسّر على أنه أقصى ما يمكن لأنقرة أن تقدّمه باتجاه إعادة المياه إلى مجاريها بين البلدين؟
قبل أن يقول بوتين إن روسيا لن تنسى إسقاط الطائرة وقتل الطيار، وإن تركيا ستندم على فعلتها، ولن تفلت من العقوبات، كان البلدان يتجهان نحو شراكةٍ استراتيجيةٍ في مجال الطاقة بمشروع محطة الطاقة النووية وخط أنابيب الغاز بعقودٍ تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار، لتنقلب الأمور رأساً على عقب، بدأتها موسكو بتجميد واردات الخضروات والفواكه التركية، ثم ألحقتها بجملةٍ من القيود على أنشطة رجال الأعمال الأتراك في روسيا، ليتبعها وقف تدفق السياح إلى تركيا، ما أدى إلى انخفاض بنسبة 90% في عدد السياح الروس أخيراً. وقالت أنقرة أيضا ما عندها وقتها، عبر إبطاء مشروعات الطاقة مع روسيا، وتعطيل مشروع بناء محطة الطاقة النووية “أك كويو”، كما تم تجميد مشروع خط أنابيب الغاز الرئيس الذي تعلق عليه موسكو أهميةً كبيرةً، وكان مخططاً أن يحمل مشروع “السيل التركي” 63 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا سنوياً.
يتزايد الحديث عن تحولاتٍ في السياسة الخارجية التركية في صفوف القيادات السياسية التركية
والإعلام المقرب منها، والتوتر التركي الروسي أحد أهم الملفات العالقة التي تحتاج إلى معالجةٍ سريعة، وتحرّكٍ لا يمكن تأخيره أكثر من ذلك. يعرفون في أنقرة جيداً أن لروسيا اليوم اليد الطولى في توتير علاقات تركيا بإيران والعراق ولبنان، وتسليح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وتحريض حزب العمال الكردستاني، ومحاولة الضغط على لاعبين إقليميين ودوليين لعدم الاقتراب من أنقرة، مثل إسرائيل ومصر. كما يتابع الأتراك عن قرب ما تقوم به موسكو في سورية في تضييق الخناق على التحرّك العسكري واللوجستي التركي في المناطق الحدودية التركية السورية، وإيقاف حركة الطيران التركي فوق غرب الفرات البقعة الجغرافية الحسّاسة للأتراك.
وفي صلب التحول في الموقف التركي حيال روسيا، ربما هناك قناعة تركية جديدة باستحالة الرهان على موقف أميركي أوروبي داعم في المواجهة مع روسيا. هناك قلق تركي حقيقي حيال سيناريوهات تناقش في المحافل الغربية أن مواجهة عسكرية تركية روسية تعني للغرب فرصة إضعاف البلدين، وإخراجهما من لعبة التوازنات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد التفاهم الغربي النووي مع إيران. المصالحة التركية الإسرائيلية وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بين الأسباب التي ستأخذ مكانها في مسألة التحوّل التركي الروسي في قراءة مسار علاقاتهما ومستقبلها. قد تكون أنقرة قادرةً على إيلام موسكو في الملف الأوكراني، وكذلك موسكو في ردّها من خلال الملف الأرمني، لكن واشنطن قادرة على إيجاعهما معاً وبسهولة. وتندرج رسائل واشنطن إلى موسكو، أخيراً، في أن صبرها قد نفد حيال السياسة الروسية في سورية، وإبلاغها أنقرة مجدّداً على هامش قمة وزراء دفاع حلف الناتو أنها جاهزة لمناقشة مشروع المنطقة الآمنة في شمال سورية، تندرج، بعد هذه الساعة، في إطار المحاولة الجديدة للعب ورقة التوتر التركي الروسي، وعرقلة الغزل الجديد بين أنقرة وموسكو لا أكثر.
ألن يسأل أحد عن دور الإدارة الأميركية في تغريم أنقرة الثمن الاستراتيجي الباهظ الذي دفعته، بعد قرار تعليق الجيش التركي الطلعات الجوية فوق سورية؟ تقول موسكو إنه لا حل في سورية لا تتبناه وتعتمده هي، وواشنطن لا تقول أي شيء سوى تكرار مواقف قديمة، قد تكون غايتها منح روسيا الوقت والفرص التي تريدها هناك، فكيف ترضى أنقرة أن تبقى بين المطرقة الروسية والسندان الأميركي؟ تقول أنقرة إنها لا تعرف ما الذي تريده موسكو لإنهاء الأزمة، لكن الجانب الروسي، وعلى لسان السفير في أنقرة، كان واضحاً عندما طالب بتنفيذ شروط بلاده، وبينها اعتذار تركيا عن إسقاط الطائرة ودفع تعويضات، بالإضافة إلى محاسبة المسؤولين عن الحادثة.
السيناريو التركي هو اعتذار بسبب سقوط القتيل الطيار ربما، والاستعداد لتقديم الدعم المالي لأسرته، لكن موسكو تريد الاعتذار بسبب إسقاط الطائرة ومعاقبة الفاعلين، وهو تباعدٌ من الممكن سد فجواته، في حوار سياسي دبلوماسي بعيد عن الأعين، من المفترض أن يكون قد بدأ بوساطة الجاليات الإسلامية في روسيا ورجال الأعمال الروس من أصل تركي المنتشرين في البلدين. وينقل الإعلام الرسمي في الجانبين الصورة مبتورةً، ويقدّم ما يرضي متابعيه، وهو عائق آخر أمام التهدئة تتطلب إزاحته من الطريق. ويطاول تراجع العلاقات مصالح البلدين التجارية والاستثمارية والسياسية، وليس مقبولاً بعد الآن الاكتفاء بإبراز خسائر الطرف الآخر. ربما مشكلة القيادات السياسية في الدولتين، والتي تحول دون إطلاق التغيير الواسع في ملف العلاقات التركية الروسية، هي الهتافات التي تردّدها القواعد الشعبية المناصرة في كل مناسبة، وفي كل موقف داخلي وخارجي، كرسالة تعبير عن دعمهم الواسع قيادييهم “تابع، فأنت في الطريق الصحيح”.
تكرّر موسكو دائماً أنها متمسكة بتنفيذ أنقرة شروطها ومطالبها، قبل الدخول في أي نقاش باتجاه إنهاء التوتر وإعادة العلاقات إلى سابق عهدها، لكن تركيا حصلت على ما تريد كما يبدو، وهو تحريك قنوات الاتصال السياسي والدبلوماسي بين البلدين، لتسخين عملية الحوار، والانتقال إلى الخطوة التالية التي قد تكون على طريقة لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم. لا بد أن تكون المصالحة حلقةً في إطار تفاهم حول إعادة العلاقات إلى سابق عهدها، لكن المطلوب أيضا هو بناء الآلية السياسية والدبلوماسية والعسكرية المشتركة التي تحول دون وقوع أحداث مماثلة في المستقبل.
في العلاقة مع روسيا، تعرف أنقرة تماماً أنه حكم عليها بمجاورة دولةٍ عظمى، لن يكون من السهل محاكاتها. يقول التاريخ، والأرشيف أيضاً، إن التهديد والوعيد ليست اللغة التي يقبل بها الأتراك والروس في علاقاتهما.