“تغير هائل وانحراف كبير عن المسار”, هذا ما توصل له بعض الناشطين السوريين تجاه موقف تركيا الراهن من الثورة السورية, تصريحات نارية في بدايتها, إذ كانت سياسات محدودة بالخطوط الحمراء التي رسمها سادة القرار في البيت التركي, “فهم لن يسمحوا بحماة ثانية, والنظام السوري هو نظام فاقد للشرعية في نظرهم, ومسؤولي النظام تلطخت أيديهم بالدماء ويجب محاسبتهم, والثورة السورية هي الشرعية وهي البديل الوحيد والضامن الأوحد لمستقبل وحدة الأراضي السورية”, أقوال كثيرة وتصريحات عديدة صدرت بين هنا وهناك وفي أزمنة مختلفة, على لسان كبار المسؤولين الأتراك عن الدعم غير المحدود للثورة السورية.
أما اليوم فالتصريحات لم تعد نارية, والمواقف لم تعد إيجابية, والقرارات تتركز على المصلحة التركية, والقضية السورية باتت ورقة مساومة يلعب بها الأتراك لضمان المصالح الإقليمية والدولية.
حدود مغلقة بشكل كامل في وجه المدنيين النازحين الذين كانت تركيا تبكي معاناتهم في الداخل السوري, والمفارقة أن اتخاذ هذا القرار في ظل أكثر الظروف صعوبة, وأكثر الحملات دموية, لقاءات خفية وعلنية مع القيادة الروسية, وتأكيدات على أهمية الدور الذي تلعبه روسيا في سورية, بعد أن صدرت عدة اتهامات من القيادة التركية للقيادة الروسية بارتكاب مجازر في حق الشعب السوري, غموض في الرؤية التركية الحالية حول مستقبل النظام في سورية, إلى جانب بعض التصريحات المعبرة عن القبول التركي بدور محتمل للنظام في المستقبل السوري.
لكن لماذا كل هذا التغير الآن؟
يقول بعض المحللين السياسيين أن القيادة التركية انساقت وراء ظلال عظمتها, ودورها المتصاعد كقوة أساسية في منطقة الشرق الأوسط دون حساب نتائج الانتكاسات والخيبات, فحاولت أن تلعب دور القوة الإقليمية التي تسعى إلى تطبيق نوع من الوصاية في سورية, ولكنها اصطدمت في جدار صلب من العقبات فاضطرت إلى تعديل سياستها.
راهنت تركيا منذ البداية على التعاون التركي-الخليجي لدعم الثورة السورية, وذلك لالتقاء مصالح الأتراك والخليجيين في نقطة وقف مد الزحف الإيراني والمشروع الكبير لهذه الدولة في المنطقة الذي سيؤثر مستقبلاً على أمن كلٍ من دول الخليج وتركيا معاً, إلا أن الرغبة التركية توقفت عندما اكتشفت أن الموقف الخليجي محدود بدائرة التزامات تتبع على مستوى القرار للولايات المتحدة الأمريكية, سيما أن المواقف الأمريكية سلبية تجاه الثورة السورية بكل المقاييس, وأن الولايات المتحدة تغض الطرف عن تمدد المشروع الإيراني في كلٍ من سورية والعراق, بل تستخدم أدوات هذا المشروع في حربها على ما تسميه “الإرهاب والتطرف”, وارتهان قرارات دول الخليج العربي وانصياعها بشكل كامل للرؤية الأمريكية حتى لو كانت على حساب أمنهم, دفعت كل هذه الأسباب تركيا إلى الوقوف على مسافة بعيدة عن المراهنة على الدور الخليجي في سورية, عدا عن كون الموقف الأمريكي مخيبا للآمال جراء دعم الولايات المتحدة للأكراد الانفصاليين في سورية وبالتالي اصطدام المصالح التركية مع المصالح الأمريكية.
ومن الناحية الأخرى لم تكتسب تركيا سوى عداء الدولة الروسية الداعمة للنظام السوري بشكل كبير على الصعيد العسكري, والاصطدام مع الدولة المجاورة إيران في سورية, وبالتالي وجدت تركيا نفسها وحيدة وتعيش عزلة دولية خطيرة من الغرب والشرق, لذلك كان لابد لها أن تعيد حساباتها وتتنازل عن الكثير من الطموحات البعيدة في العمق السوري, وبالتأكيد الضحية هي الثورة السورية.
صحيح أن الدولة التركية تسعى لتحقيق مصالحها العليا كأهم خطوة على سلم الأولويات السياسية التركية, إلا أنها من حيث تدرك أولا تدرك, أوصلت الثورة السورية إلى نقطة حرجة للغاية, فقد تحولت العديد من الفصائل العسكرية السورية لأدوات تستخدمها تركيا في تأمين حدودها فقط, بل هناك من يتهم تركيا بالتماشي مع الرغبة الروسية لإعادة حلب إلى سلطة النظام, وهذا ما أشار إليه رئيس الوزراء التركي “بن علي يلدرم” عندما قال “مشروع درع الفرات لا يهدف إلى إسقاط النظام في سورية, وأن حلب ليست ضمن حساباتنا”, إذن تملص تركي واضح وصريح في أحلك الظروف التي تمر بها الثورة السورية, وتغيير كبير في حسابات المصالح ولكن على حساب دماء السوريين وثورتهم.
والسؤال الآن:
هل تشفع هذه المبررات لتركيا أمام السوريين الغاضبين؟
وهل مازال هناك من يراهن على دور إيجابي جديد لتركيا يبدّي مصالح الثورة السورية على حساب المصالح التركية في الحفاظ على وحدة أراضيها وتأمين حدودها؟!
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود