خرجت تركيا قبل حوالي ثلاثة أشهر من محاولة انقلابية فاشلة (15 يوليو/تموز 2016) وما زالت تفاعلاتها على المستويات الداخلية والخارجية مستمرة. وقد مارست تركيا خلال هذه الفترة نشاطًا كبيرًا في الساحة الإقليمية والدولية سواء مع الزخم المصاحب لتطبيقها سياسة “انفتاحية” لحل الخلافات الثنائية مع عدد من الدول (روسيا، إسرائيل، الإمارات) أو مع عدد من المبادرات السياسية والعسكرية للتعامل مع عدد من الأزمات الإقليمية ولعل أهم ما تتعامل معه السياسة الخارجية التركية الآن هو التطورات الإقليمية الحاصلة في كل من العراق وسوريا.
درع الفرات
في محاولة لاستدراك الموقف من التطورات في سوريا، بدأت تركيا، في 24 أغسطس/آب 2016، عملية درع الفرات، وهي عملية تم تنسيقها بشكل رسمي مع قوات التحالف الدولي تدعم القوات التركية من خلالها قوات من الجيش السوري الحر من أجل تحقيق عدة أهداف، منها: إنهاء سيطرة “تنظيم الدولة” في مناطق شمال سوريا وخاصة القريبة من الحدود التركية من أجل تأمين المدن التركية من هجمات التنظيم علمًا بأن العملية أتت بعد ثلاثة أيام من مقتل 50 مواطنًا تركيًّا في تفجير نفَّذه التنظيم في حفل زفاف في مدينة غازي عنتاب(1).
ومن أهم الأهداف التي تريد تركيا تحقيقها من عملية درع الفرات منع القوات الكردية المتمثلة في حزب الاتحاد الديمقراطي من وصل “الكانتونات” الكردية بين كوباني وعفرين، ويُعَدُّ الاعتماد الأميركي على قوات حماية الشعب الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي ((PYD، والتي سيطرت على الكثير من الأراضي التي انسحبت منها داعش، أحد أهم محفزات تركيا لإطلاق عملية درع الفرات؛ حيث وصلت الأمور إلى نقطة لم تعد تتحمل عندها تركيا الانتظار طويلًا عندما بقيت القوات الكردية في مدينة منبج بعد هزيمتها لتنظيم الدولة بالرغم من التعهد الأميركي بعودة هذه القوات إلى مناطقها شرق نهر الفرات بعد انتهاء العمليات حيث إن القوات الكردية تقدمت إلى غرب الفرات بضمانات أميركية علمًا بأن قسمًا صغيرًا منها قد انتقل إلى شرق الفرات بعد تهديد نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، برفع الغطاء عنها في حال لم تنسحب إلى شرق الفرات(2).
وجاء من بين الأهداف أيضًا حصول تركيا على مطلبها الذي طالما نادت به وهو إقامة منطقة آمنة شمال سوريا تمنع من خلالها المزيد من عمليات النزوح إلى أراضيها وتعمل على إعادة عدد من اللاجئين السوريين إلى هذه المناطق، وقد تمكنت العملية، حتى كتابة هذه السطور وفي مرحلتيها الأولى والثانية وقسم من المرحلة الثالثة حتى 16 أكتوبر/تشرين الأول 2016، من تحرير ما مجموعه 1300 كيلومتر مربع من الأراضي بطول 90 كم وعمق 20 كم. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن أن هدف عملية “درع الفرات” هو تطهير 5 آلاف كيلومتر مربع من إرهابيي داعش وإنشاء منطقة آمنة للاجئين.
ومن أجل هذا الهدف المتمثل بمنطقة آمنة يُفرض فيها حظر للطيران فيما بعد أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن قوات عملية “درع الفرات” شمالي سوريا، مضطرة للتمدد 45 كيلو مترًا على الأقل نحو الجنوب للوصول إلى مدينة “منبج”(3).
ويفصل عملية درع الفرات حاليًّا عن الوصول إلى مدينة الباب حوالي 13 كيلومترًا بعد أن استطاعت العمليات أن تحرر مدينة دابق التي كانت تحتل أهمية كبيرة لدى التنظيم لارتباطها بتصورات عقدية متعلقة بنبوءات حول معركة نهاية العالم.
أما فيما يتعلق بعمليات جيش الفتح، فقد أسهمت تركيا في دعم عدد من الفصائل المشاركة فيه، وقد تمكَّن في مارس/آذار 2015 من تحرير مدينة إدلب في فترة قياسية، وما زالت تركيا تواصل دعمها لعدد من الفصائل المشاركة فيه من أجل العمل على تحرير محافظة حلب وفك الحصار عن مناطق المعارضة المحاصرة فيها بالحد الأدنى لكن الجهود ما زالت تواجه صعوبات في ظل القصف الجوي الروسي المكثف.
ومن الواضح أن الاعتراض الروسي المتواضع على عملية درع الفرات يجعل من المنطقي التفكير بأن هناك تفاهمات معينة مع الروس حولها بل إن بعض المصادر أفادت بأن العملية كانت ستبدأ قبل وقت طويل لولا الأزمة التي حدثت مع إسقاط الطائرة الروسية وذلك بسبب عدم تضرُّر روسيا من منع تركيا لإنشاء كيان كردي شمال سوريا إضافة إلى تركيز بوتين على إنجاح مشروع السيل التركي الذي سينقل الغاز الروسي عبر البحر الأسود ومن ثم إلى الدول الأوروبية. ومن الأمور الأخرى التي تجعل روسيا تتغاضى عن عملية درع الفرات هو رغبتها بتوسيع هوة الخلاف بين واشنطن وأنقرة من خلال إظهار مراعاتها للمصالح التركية الحيوية شمال سوريا على عكس واشنطن وبالتالي توثيق العلاقة مع أنقرة على حساب واشنطن. ومن زاوية أخرى، فإن موسكو تدرك أن علاقة حزب العمال الكردستاني مع واشنطن أكبر من أن تستطيع إحداث اختراق فيها كما أن مصالحها مع تركيا لا تُقارَن بمصالحها مع الحزب ولذلك كان سهلًا عليها التخلي عنه. أما فيما يتعلق بجهود جيش الفتح الذي تشارك تركيا في دعمه فإن الطرفين يحاولان الابتعاد عن المواجهة المباشرة وتعاني خيارات أنقرة ضيقًا فيما يتعلق بمواجهة الروس في حلب خاصة مع الضغوط التي تتعرض لها قوى المعارضة السورية في ما يتعلق بجبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) والتي أُفيد بأن تركيا والسعودية وقطر وافقت على المفاوضات العسكرية مع أميركا وروسيا بهدف إبعاد مقاتلي جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة(4).
ولا يعني التوافق التركي-الروسي الملحوظ مؤخرًا أن تركيا سوف تتخلى عن دعم قوات المعارضة في محيط حلب ولكن لأهداف روسية لا تعترض موسكو على ما تقوم به تركيا في شمال سوريا؛ لأنها تركز على حلب، ولأن ما تقوم به تركيا لا يؤثِّر في مصالحها كثيرًا. ومع ذلك، فإن المعلومات الواردة تشير إلى تقديم دعم تركي وتدريب لآلاف من عناصر المعارضة من أجل بدء عمليات فك حصار النظام عن حلب في أقرب وقت ممكن(5). وهذا من شأنه أن يضع العلاقات التركية-الروسية أمام اختبار حقيقي في ظل التصميم الروسي على تمكين النظام من السيطرة على حلب، وهذا ما تدركه تركيا ولذلك فإن حضورها في حلب سيكون محدودًا حتى ضمان انتهاء عملية درع الفرات بنجاح.
وعلى الصعيد السياسي، شاركت تركيا في اجتماع لوزان بشأن تحريك الأمور لبدء العملية السياسية في سوريا وقد ناقش الاجتماع عددًا من الأفكار التي قدَّمها المبعوث الدولي، ستيفان دي ميستورا، إلى مجلس الأمن الدولي قبل عشرة أيام والمتعلقة بوقف الغارات الجوية على مدينة حلب مقابل انسحاب مقاتلي جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) من المدينة باتجاه إدلب وإبقاء الحكم المحلي في الأحياء المحاصرة منوطًا بالمجالس المحلية، والسماح بتواجد دولي في المدينة، لكن الاجتماع اختُتم دون تحقيق أية نتائج(6).
عملية تحرير الموصل
يبدو بشكل واضح أن الحكومة العراقية لا تريد أن تكون تركيا موجودة في عملية تحرير الموصل من سيطرة تنظيم الدولة؛ فمع بدء التحضيرات للعملية قام البرلمان العراقي في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الحالي برفض وجود القوات التركية في شمال العراق واعتبارها قوات محتلة ومعادية، وجاء ذلك بعد أن أقرَّ البرلمان التركي تمديد بقاء القوات التركية في العراق، وقد سبق ذلك إعفاء وزير الدفاع العراقي، خالد العبيدي، الذي زار معسكر بعشيقة من منصبه وكذلك إلغاء منصب أسامة النجيفي كنائب للرئيس وهو معروف بقربه من تركيا وكان له دور في التنسيق لتدريب الجنود الأتراك لقوات الحشد الوطني(7).
وبالرغم من أن الخلاف بين تركيا والحكومة العراقية ليس جديدًا حيث شهد شهر ديسمبر/كانون الأول 2015 خلافًا حول تواجد القوات التركية في معسكر بعشيقة إلا أن الخلاف هذه المرة يكتسب أهمية كبيرة بسبب ارتباطه برغبة تركية كبيرة في المشاركة في عملية تحرير الموصل مما أدَّى إلى بزوغ توتر وصل إلى مستوى تبادل الانتقادات شديدة اللهجة بين الرئيس التركي ورئيس الوزراء العراقي؛ حيث قال أردوغان للعبادي: “أنت لست بمستواي، وصراخك في العراق ليس مهمًّا، فنحن سنفعل ما نشاء، وعليك أن تلزم حدَّك أولًا”، فيما قال رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي: إن “تصعيد الأتراك للهجتهم يهدف إلى عرقلة عملية تحرير الموصل حتى يتاح لهم الوقت الكافي لإنشاء بديل لتنظيم الدولة الإسلامية”(8).
تعتقد تركيا أن الحكومة المركزية العراقية بتوجيهات أطراف دولية وإقليمية تريدها خارج المعادلة من أجل استمرار السيطرة الشيعية على العراق. ولهذا، فإن تركيا تحاول جاهدة مقاومة هذا الرفض من خلال بعض المداخل مثل الاعتماد على التوافق مع الأطراف التي تشعر بالقلق من السيطرة الشيعية مثل كردستان العراق والعشائر العربية السنية(9). وتدرك تركيا أن عملية تحرير الموصول ستكون محطة مهمة في مستقبل العراق لذلك هي حريصة على أن تكون موجودة بأكبر قدر ممكن. وفي هذا الإطار، فإن جملة من العوامل المهمة تدفع تركيا نحو الإصرار على المشاركة:
اعتبار استقرار منطقة الموصل أمرًا يمس الأمن القومي بشكل مباشر، مع وجود حدود طولها 350 كم مع العراق.
المساهمة في وقف نزوح مئات الآلاف إلى حدودها (مع الإشارة إلى صعوبة القدرة على التمييز بين النازحين والإرهابيين).
منع مشاركة قوات حزب العمال الكردستاني تحت غطاء الحشد الشعبي خاصة أن مواقع الحزب في شمال العراق لا تبعد كثيرًا عن مناطق العمليات في الموصل فضلًا عن الرغبة في عدم تكرار تجربة حزب الاتحاد الديمقراطي في تصدر الحزب للمواجهة مع داعش في سوريا، وبالتالي منع اتصال الممر الكردي على الحدود التركية مع سوريا والعراق.
منع قوات الحشد الشعبي الطائفية من دخول الموصل تحسبًا لوقوع عمليات انتقامية ضد المواطنين السنَّة وحماية الأقلية التركمانية في العراق.
منع عملية التغيير الديمغرافي في الموصل التي تقطنها أغلبية عربية سُنِّية وتلعفر التي تقطنها أغلبية تركمانية.
ارتكاز تركيا على وجود 2000 من قواتها وعلى التعاون مع قوات الـ”بيشمركة”، إضافة إلى تدريبها 3 آلاف من قوات الحشد الوطني بدأت في تدريبهم منذ نهاية 2014.
الإنجازات التي تحققها عملية درع الفرات.
وبالرغم من توتر العلاقة حاولت أنقرة تخفيف الأزمة بالحوار حيث وصل، الاثنين 17 أكتوبر/تشرين الأول 2016، وفد تركي عالي المستوى إلى بغداد لنقاش الخلاف حول التواجد التركي في بعشيقة إلا أن الزيارة جاءت في ظل تأكيد الرئيس التركي رفضه الانسحاب من الأراضي العراقية، قائلًا: “يجب ألا ينتظر منَّا أحد أن نغادر بعشيقة”. وقال أردوغان: “سنكون جزءًا من عملية الموصل، سنكون موجودين على الطاولة، ومن غير الوارد أن نكون خارج العملية”. ولهذا، وبالرغم من حديث عن وفد عراقي سيزور أنقرة فإن الأخيرة تتوفر لديها قناعة بأن الرفض العراقي ليس نابعًا من قرار الحكومة المركزية بقدر ما هو اجتماع رغبة أميركية-إيرانية على رفض المشاركة، وبالتالي، فإن أنقرة وجدت نفسها أمام التنسيق مع التحالف الدولي بعد أن حاولت الاستدارة حول موقف الحكومة المركزية من خلال رئيس إقليم كردستان الذي وجد نفسه تحت ضغوط كبيرة اضطرته إلى دعوة بغداد وأنقرة للتفاهم بشأن الموصل مؤكدًا أن مشاركة أية قوة إضافية في المعركة يجب أن تكون بالتنسيق مع القيادة العامة للقوات العراقية، سواء تعلَّق الأمر بالقوات التركية أو بميليشيات الحشد الشعبي(10).
وبعد المباحثات التي أجراها المسؤولون الأتراك مع قيادة قوات التحالف الدولي، وفي ظل الإصرار التركي، تم التوصل إلى اتفاق تشارك بموجبه مقاتلات تركية في غارات قوات التحالف الدولي على مواقع لتنظيم داعش ضمن إطار تحرير مدينة الموصل العراقية، مع وجود تعهدات بعدم دخول قوات الحشد الشعبي الشيعية إلى داخل الموصل.
ولكن من خلال استقراء تصريحات المسؤولين الأتراك يمكن أن نستشعر الثقة المفقودة في وعود قوات التحالف؛ حيث أشار وزير الدفاع التركي، فكري إيشك، في معرض تعليقه على الاتفاق مع قوات التحالف على مشاركة المقاتلات التركية، إلى أن أي خطأ يُرتَكب في الاستراتيجية المتَّبعة لتحرير الموصل من داعش، سيؤدي إلى حدوث كارثة إنسانية وسيجبر قرابة مليون شخص على النزوح عن ديارهم باتجاه الأراضي التركية، لافتًا في هذا الصدد إلى أن المعطيات الأولية تشير إلى عدم ارتكاب القوات المشاركة في العملية أخطاء من هذا القبيل(11).
وتتناقض تصريحات إيشك مع التصريحات الصادرة عن البنتاغون حول مشاركة تركيا في العمليات حيث أفاد البنتاغون بأن تركيا ليست مشاركة في العمليات الجوية لتحرير الموصل ولعل ما يفسر هذا أن تركيا هي ضمن قوات التحالف الدولي ضد الإرهاب كغيرها من الدول أما فيما يتعلق بعملية الموصل فهناك خلافات ما زالت قائمة حول مشاركتها لكن يُتوقَّع أن يتم حل هذه الخلافات والسماح لتركيا بالمشاركة في العمليات.
وفي ذات السياق، ألمح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بنبرة تهديدية إلى ضرورة إيفاء قوات التحالف بوعودها وإلا ستنتهي الشراكة: “قوات التحالف أخلفت وعدها وسمحت لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية الشعبية بدخول منبج، على الرغم من كون 95 بالمئة من سكانها من العرب، وبناء على ذلك قمنا نحن باللازم وبدأنا عملية درع الفرات، وأقولها من هنا: إن لم تُطهَّر المنطقة من حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية الشعبية فإن شراكتنا ستنتهي”(12). ولعل هذه النبرة تعد غير مسبوقة في العلاقة بين أنقرة وواشنطن.
وبعد هذه التصريحات دُعيت تركيا للمشاركة في الاجتماع الوزاري الذي ستعقده فرنسا مع العراق من أجل “التحضير للمستقبل السياسي للموصل”، فضلًا عن زيارة سيجريها وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، إلى تركيا يوم الجمعة، لبحث آخر تطورات الوضع في سوريا والعراق ويعتقد أن هذه الزيارات هي محاولات لطمأنة تركيا ومنع إقدامها على خطوات غير متسقة مع الموقف الغربي(13).
التغيرات في الأداء التركي
في سياق التطورات الإقليمية الأخيرة، يمكن ملاحظة عدد من المتغيرات على السياسة التركية وخاصة مع التوترات في العلاقات بين أنقرة وواشنطن فلطالما نعتت كل من الولايات المتحدة وتركيا العلاقات الثنائية بينهما بأنها علاقة تحالفية، ولكن تركيا التي شهدت محاولة انقلابية في 15 يوليو/تموز الماضي والتي يقيم الرأس المدبِّر لها، حسب الإفادة الرسمية التركية، فتح الله غولن، في ولاية بنسلفانيا الأميركية، تفتَّح أمامها الكثير من الأسئلة حول علاقة واشنطن ودورها في هذه المحاولة الانقلابية أو على الأقل علمها المسبق بها.
ولم تقف الأمور عند هذا الحدِّ؛ فالولايات المتحدة تعتمد بشكل رئيسي على قوات وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا وتقدم لها كافة أنواع الدعم اللازم لتحقيق مزيد من السيطرة في شمال سوريا حيث إن تركيا تعتبر هذه القوات تنظيمات إرهابية تابعة لحزب العمال الكردستاني، وقد زادت الأمور توترًا في ظل الاعتراض الأميركي غير المباشر على مشاركة تركيا في عملية تحرير الموصل بحجة عدم موافقة الحكومة المركزية في العراق.
قاد كل ما سبق إلى تغير في الأداء التركي، ويمكن إجمال مجموعة من التغيرات في النقاط التالية:
اعتماد تركيا على القوة الصلبة وسياسة فرض الأمر الواقع في تحقيق أهدافها، والعمل على الاستفادة من الوقائع على الأرض في تثبيت مكاسب سياسية.
فشل المحاولة الانقلابية وتطهير قسم كبير من مؤسسات الدولة من جماعة غولن أعطى مرتكز قوة إضافيًّا لصانع القرار التركي مما أعطى وزنًا أكبر للقيادة السياسية في اتخاذ القرار في الشؤون الخارجية المتعلقة بالعمليات العسكرية.
الانتقال من التركيز على البُعد الإنساني في التعامل مع الملف السوري إلى التركيز على البعد السياسي والعسكري بمعنى تبنِّي سياسات أكثر واقعية.
المواجهة مع سياسة الولايات المتحدة المتعارضة مع السياسة التركية بشكل عملي.
التوجه نحو عدم التعامل مع الولايات المتحدة كحليف.
زيادة التقارب مع روسيا والتباحث الثنائي في الملف السوري (من أبرز التطورات: تهنئة الرئيس الروسي للرئيس التركي بنجاح العمليات ضد تنظيم الدولة في سوريا مساء الثلاثاء 18 أكتوبر/تشرين الأول 2016، إضافة إلى التنسيق من أجل وقف الاشتباكات الدائرة في مدينة حلب السورية، وتعزيز العلاقات على كافة الأصعدة خاصة في مجال الاقتصاد والتبادل التجاري وقطاع الطاقة بين البلدين).
تراجع تكتيكي في الخطاب تجاه نظام الأسد؛ حيث يمكننا بوضوح ملاحظة الحديث عن المحافظة على وحدة الأراضي السورية والتركيز على المواجهة مع داعش والقوات الكردية وتراجع الحديث عن تنحي الأسد وعدم إشراكه في العملية السياسية المستقبلية.
زيادة مركزية رئيس الدولة في توجيه السياسة الخارجية، والتعامل كما أن النظام الرئاسي أمر واقع.
بالرغم من التركيز على البُعد عن الاصطفافات الإقليمية من منطلقات طائفية إلا أن هناك تزايدًا للنبرة في الحديث عن الدفاع عن السنَّة في المنطقة(14).
اتجاهات الرأي العام التركي
في استطلاع للرأي العام التركي نفَّذته شركة ORC للأبحاث، في نهاية أغسطس/آب 2016، في 32 مدينة تركية، قال 94.6% من المستطلعة آراؤهم إنهم يدعمون عملية درع الفرات التي بدأها الجيش التركي، فيما أكد 5% أنهم لا يدعمون العملية(15).
كما أكد 85.5% أنهم ينظرون بشكل إيجابي لإصلاح العلاقات بين روسيا وتركيا.
أما فيما يتعلق بالمشاركة التركية في الموصل، فلم يتسنَّ للكاتب أن يصل إلى استطلاعات رأي حديثة حول اتجاهات الرأي العام التركي لكن يمكن القول: إن نسبة كبيرة من الشعب التركي تدعم العمليات في الموصل تحديدًا وذلك لاعتبار قسم من الشعب التركي الموصل وكركوك جزءًا من الدولة التركية، وكما قال رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي: إذا لم تكن الموصل جزءًا من الدولة التركية ماديًّا فهي كذلك معنويًّا. كما أن الاعتبار الآخر يتعلق بالروح الشعبية المؤيدة لإجراءات الحكومة وللرئيس أردوغان والتي تزايدت بعد فشل المحاولة الانقلابية، كما تجدر الإشارة هنا أيضًا إلى أن وسائل الإعلام التركية المرئية والمقروءة تخصِّص تغطية شاملة وغير مسبوقة للأزمة مع العراق والتدخل المحتمل في الموصل.
السيناريوهات المحتملة
من المرجح أن تستمر عملية درع الفرات في تقدمها نحو مدينة الباب ويُتوقع تسارع العمليات من أجل كسب أكبر قدر من المناطق استباقًا للأجواء الصعبة في ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني، وفي حال لم تخرج قوات سوريا الديمقراطية من مدينة منبج من المرجح أن تتوجه عملية الفرات إلى منبج ولكن ذلك لن يتم غالبًا قبل السيطرة على مدينة الباب. أما فيما يتعلق بجبهة حلب، فإن هناك احتمالات لأن يتم عدد من المعارك لفكِّ الحصار عن حلب من قبل قوات المعارضة لكن الخيارات التركية هناك صعبة لذلك سيتم العمل على الجانب السياسي والإنساني لتطبيق اتفاقيات هدنة، وهذا مرهون بالجهود الدولية. أما معركة الرقة، فإنه من المبكر الحديث عنها قبل انتهاء عملية الموصل بالرغم من إعلان تركيا عن استعدادها، لكن من المهم الإشارة إلى أن هروب عدد كبير من قوات تنظيم الدولة إلى سوريا كنتيجة محتملة لعملية الموصل سيجعل من الرقة القلعة الأخيرة لتنظيم الدولة مما سيصعِّب من عملية تحريرها.
وفيما يتعلق بعملية تحرير الموصل، ومع تضارب التصريحات حول مشاركة الطائرات التركية في عمليات قوات التحالف، ستعمل تركيا على المشاركة في عمليات التحالف الدولي ضد الإرهاب بشكل عام، والتنسيق مع قوات الـ”بيشمركة”. ومن المتوقع أن يُفتح المجال أمام تركيا للمساهمة في عمليات القصف الجوي لاحقًا ومع هذا ستستمر تركيا في الاعتماد والتنسيق مع حلفائها على الأرض وهو ما يحول دون دخول قواتها البرية، وهو ما سيجعل تدخلها أقل فاعلية.
يبقى أن نشير إلى أن توقع مدة انتهاء عملية الموصل أمر صعب وذلك لصعوبة مقارنتها بالفلوجة والرمادي من حيث تحصن قوات داعش فضلًا عن أنها مدينة كبيرة يعيش بها أكثر من مليون ونصف مليون نسمة. فيما يتعلق بمستقبل الموصل، فإنه من المرجح أن تسعى تركيا بشكل جدي لأن تكون الموصل ولاية سُنيَّة مستقلة كما هي الحال مع إقليم كردستان أو يتم العمل على التنسيق في إدارتها بشكل مشترك بين إقليم كردستان والمكونات العربية السنية فيها، خاصة مع رفض المكونات السنية في نينوى العودة إلى حكم الحكومة الاتحادية التي تركتهم بمفردهم أمام داعش، مع وجود غموض حول تقدير كيفية قيام تركيا بذلك في ظل الأدوات المتوفرة بين أيديها، وبالتأكيد فإن كيفية تحقيق ذلك مرتبطة بالتدخل التركي حيث لا تزال أنقرة تواجه صعوبات كبيرة في إدارة تدخلها في عملية الموصل بسبب المعارضة من أهم الأطراف الفاعلة في العراق، وهي: واشنطن وإيران والحكومة المركزية، كما أن هناك خللًا واضحًا في إدارة الأزمة مع الحكومة المركزية في العراق تارة من خلال التصريحات المتبادلة وفرض الأمر رغمًا عنها وتارة بالحديث عن الحوار معها.
أما على صعيد العلاقة مع الحكومة المركزية في العراق، فبالرغم من عمليات الحوار الدائرة إلا أن العلاقات مرشحة للتوتر في أية لحظة خاصة في ظل البيئة الطائفية الموجودة في العراق، كما من المتوقع زيادة التقارب التركي-الخليجي في ظل عملية الموصل التي تدعم فيها إيران الحكومة المركزية وميليشيات الحشد الشعبي.
خاتمة
تبدو تركيا عازمة على فرض أجندتها فيما يتعلق بخطوطها الحمراء، وتسعى لتثبيت وقائع على الأرض وانتهاج بدائل تقلِّل من الاعتماد على الولايات المتحدة، مرتكزة على سياسة أكثر واقعية من ذي قبل في محاولة لتوسيع دائرة الخيارات من أجل المساهمة في رسم النظام الإقليمي المستقبلي بما لا يضر أمنها ومصالحها.
ترك برس