الشعبيون الجدد يستبطنون مقولة الانهزام الحضاري والهزيمة النفسية والأخلاقية والثقافية، يكفي أنهم يضعون حدودا لجغرافيا الأخلاق وجينات مبادئ قابلة للتوليد في هذه الأرض دون تلك.
العدوّ الأوّل للرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي السياسي، هو المنصف المرزوقي الاتصالي الذي يسقط في كافة استحقاقات بناء الخطاب الإعلامي، وفي كافة امتحانات تكوين الرأي العام واستمالة العقل والقلب لرسالاته السياسيّة. صحيح أنّ المتصيدين السياسيين والأيديولوجيين والإعلاميين للمرزوقي كثيرون جدا في المشهد التونسي، وصحيح أيضا أنّه في العديد من المرات يقترف البعض جريمة ليّ عنق الحقيقة ومثلبة الاقتطاف الاجتزائي، ومطبّ إخراج التصريحات من سياقها، صلب الحرب السياسية القذرة الدائرة رحاها بين فريق المرزوقي ومنافسيه.
لن نقف كثيرا عند متن التصريح الأخير الذي قذف به المرزوقي دون تروّ، لا سيّما وأنّ وسائل الإعلام المحلية والعربية غاصت في تداعياته، ولكن ما يهم في هذا السياق كامن في التكثيف الشعبوي الذي بات يتحكم في مفاصل الخطاب السياسي التونسي ومخاطر تقاطعه المعرفي مع خطاب اليمين المتطرف في أميركا وفرنسا وبعض العواصم الأوروبيّة.
الشعبوية ليست فقط استدعاء للعصبيات السياسية أو المزايدة على الأنظمة القائمة برفع شعارات جوفاء عنوانها الأبرز إحراج السلطة واستدرار أصوات الناخبين، بل قد تتجسد في وقت لاحق على شاكلة جلد الذات والترفع عن الشعب عبر إلصاق التوصيفات التعميمية والأحكام الإطلاقيّة ضدّه، ولئن عرف الرأي العام المحلي مظاهر للشعبوية السياسية المتملقة للخزان الانتخابي عند الاستحقاقات التشريعية والرئاسية، فهو اليوم إزاء شعبويّة جالدة للذات الجماعيّة.
أن يتحدّث المرزوقي عن الفساد والمحسوبية والتملق والأنانية والنفاق كأمراض دفينة ضربت الشعب التونسي، وأن يرجعها قسرا إلى الاستبداد السياسي خلال فترة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي فهذا الموقف يجانب الصواب في مستوى التشخيص أولا، وفي مستوى التحليل ثانيا، يكفي أن نقول إنّ واحدة من الثمار الأخلاقية للرأسمالية والرأسمالية الجديدة، والليبرالية والنيوليبرالية كامنة في ذات المثالب التي ذكرها المرزوقي. ويكفي أن نشير أيضا إلى أنّ الغرب الاقتصادي مجسدا في صندوق النقد الدولي، وفي بعض الدول الكبرى التي كان المرزوقي ماكثا فيها، وفي إملاءاته الكثيرة والعديدة، كان وراء جزء من هذه الأمراض الأخلاقية التي ضربت معظم دول العالم.
وقد تكون واحدة من مآسي الشعوب العربية أن اجتمع عليها الاستبداد الداخلي بالاستعباد الخارجي، والتوحش المحليّ بالتغوّل الدوليّ وهو ما انجرّت عنه أعطاب أخلاقيّة. من المسؤولية الفكرية والمعرفية التأكيد على أنّ الحراك الجماهيري الذي حصل في 2011 أكّد أنّ في الشعب التونسي من المآثر والذكاء الجمعيّ ما يكفي لإسقاط مقولة التعميم في السوداوية الأخلاقية وإرساء براديغم الاستنهاض الميثاقي.
الأهمّ من كل ذلك كامن في التقاطع الخطير بين تصريحات المرزوقي والخطاب الدعائي لليمين الشعبوي في أميركا وفرنسا بالتحديد، فكلاهما يتّحدان في مستوى التوصيف المتشكّل في أنّ المواطنين العرب، وبالتحديد القابعين تحت نير الاستبداد السياسي، يجسّدون الأمراض الاجتماعية والنفسية والأخلاقية التي على الدول الغربية الحذر منها دفاعا عن عذريتها وطهرها القيميّ.
قرار دونالد ترامب بإيقاف الهجرة واللجوء من 7 دول إسلامية نابع بالأساس من هذا التمثّل التقزيمي للمنطقة العربية، ومن المنظور الاستعلائي العنصريّ والفوقيّ للحضارة الغربية حيال الحضارة العربية. الشعبيون الجدد يستبطنون مقولة الانهزام الحضاريّ والهزيمة النفسية والأخلاقيّة والثقافيّة، يكفي أنّهم يضعون حدودا لجغرافيا الأخلاق وجينات مبادئ قابلة للتوليد في هذه الأرض دون تلك.
تمثّل هذه التصريحات السخيفة والهجينة خزانا استراتيجيا مهمّا لليمين الشعبوي الأميركي والفرنسي في حملتهما ضدّ الأجنبيّ والمختلف، وفي خطابهما المدجّج ضدّ المهاجرين واللاجئين. صحيح أنّ المرزوقي أكّد خلال تصريحه بأنّ معظم التونسيين ملتزمون بالقانون في فرنسا، ولكنّ الاستدراك حول الأوضاع في تونس يشير إما إلى نفاق أو تقيّة لدى الجالية التونسية في الخارج، أو إلى تباين وصراع صلب جغرافيات الحداثة والحضارة بين الشرق والغرب. وفي الحالتين، اجتماع بين الشعبويين العرب والغربيين في مستوى المقدّمة، وتكامل بينهما في مستوى النهايات، وفي الحالتين أيضا يجتمع رئيس أميركي لا يستحق الولاية ورئيس تونسي سابق لا يستحق العودة إلى الحكم.
العرب أمين بن مسعود