القدس العربي – زياد ماجد
أقرّت الحكومة اللبنانية مؤخّراً مبدأ التوجّه إلى صندوق النقد الدولي وشكّلت وفداً لمفاوضة الأخير واضعة اللبنانيين أمام خيارين: خيار الانهيار التام الذي أوصلت القوى السياسية – وفي مقدّمها تلك المشاركة في الحكومة نفسها – البلد إليه، وخيار اللجوء إلى الصندوق والقبول بشروطه القاسية التي لن تحدّ من تدهور الأحوال المعيشية وتَفاقم المظالم الاجتماعية، لكنّها قد تسمح بإعادة هيكلة الاقتصاد وتقليص العجز في الموازنة وإدخال أموال من دائنين توقف المسار الإفلاسي للدولة.
بهذا، صار اللبنانيون أمام معضلة أو مرحلة جديدة. القوى السياسية التي تناهبت دولتهم ومؤسساتها وموازناتها وخدماتها على مدى ثلاثة عقود تلت الحرب وخرابها (نصفها بوصاية مخابراتية – مافياوية سورية، ونصفها الآخر بعد اندحار هذه الوصاية)، تقول لهم اليوم إن البلد لم يعد قادراً على الاستمرار من دون مساعدات خارجية لن تأتي هذه المرّة إلا في حال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. واللبنانيون من جهتهم، موالين كانوا للقوى السياسية الحاكمة أو معارضين لها منتفضين في الشارع عليها أو صامتين، ينقسمون تجاه مبدأ الاتفاق مع صندوق النقد بين من يراه استمراراً للشرور في ظلّ استرجاع تاريخ سياساته وفي ظلّ إدارة محلية ستبقى فاسدة ومعدومة الكفاءة طالما بقيت القوى إياها في الحُكم، وبين من يتمسّك بخشبة خلاص أو بأمل خروج من الكارثة إذا وفّر الصندوق أموالاً وإصلاحاً إدارياً وخدماتياً يفتح الباب أمام دخول مليارات تُعدّل الأوضاع القائمة.
ولعلّ المعضلة تكمن في القسمة هذه تحديداً. فهي قد تتقدّم تدريجياً لتصبح القسمة الأكثر حضوراً على الساحة اللبنانية من جهة، والأكثر عرضة للتوظيف والنفاق والمزايدات من قبل القوى السياسية والطائفية المختلفة من جهة ثانية. مردّ ذلك أن العجز عن إسقاط السلطة رغم انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 الشعبية (التي تستمرّ بعض دينامياتها اليوم)، وضَع الشارع المنتفض في مواجهة حقائق شاء بعضه أحياناً تأجيل الخوض فيها، وآثر بعضه الآخر عدم طرحها لأجندات تخصّه أو تخصّ مشاريعه وارتباطاته. والحقائق هذه ترتبط بحزب الله وأدواره داخلياً وخارجياً.
فالحزب هو العمود الفقري للسلطة اليوم، بعد أن كان الطرف الأقوى فيها طيلة العقد الأخير، وهو الحامي لها سياسياً وفي الشارع، ومن دونه لا قوام لها ولا قدرة لمكوّناتها على غير التصادم والاشتباك لشحّ الموارد التي يمكنها تقاسمها أو السطو الأحادي عليها. كما أنه فارض السياسات الخارجية على الجميع، إن لجهة انخراطه في المقتلة السورية دفاعاً عن مصالح النظام الإيراني في المنطقة وما يرافق ذلك من تهريب عبر الحدود الشرقية والشمالية لمواد وسلع حيوية، أو لجهة تعريضه لبنان لعزلة سياسية فاقمت في السنوات الأخيرة من تبعات تراجع السياحة والاستثمارات فيه والحوالات إليه.
والحزب اليوم جاهز لادّعاء معارضته لسياسات صندوق النقد والابتعاد عن الاتفاقات معه والقول إنه غير مسؤول عنها، ثم تأمين الحماية للحكومة المتفقة مع الصندوق إياه وزجر كلّ من يتصدّى لها أو يحاول النيل من مشروعيّتها.
وفق المعادلة المذكورة، يفرض انعدام القدرة على إسقاط السلطة نتيجة حماية حزب الله لها، الذهابَ إلى الانقسام حول ما تسير به السلطة ذاتها من خيارات، وعنوانه العريض إذاً: العلاقة بصندوق النقد. هكذاً تتكرّس معضلة القسمة الجديدة، التي قد لن تنفع معها ادّعاءات الجذرية أو الانتقائية (رفضاً أو قبولاً). فالعجز قد يصاحب هذه وتلك ومن المواقف، لأن مشروطيات المؤسسة الدولية لم تتبدّل كثيراً في السنوات التي شهدت أزمات مالية واقتصادية حادة في العديد من البلدان (من الأرجنتين إلى البرتغال وقبرص واليونان)، ولأن انعدام الكفاءة لدى الجانب الحكومي اللبناني معطوفاً على الفساد البنيوي وشبكات الزبائنية الناظمة لمعظم الإدارات والمرافق الخدماتية لن تكون في أي حال مرجعاً صالحاً للإشراف على إجراءات تُعيد هيكلة المالية العامة وتفرض تنظيماً جديداً للقطاع المصرفي (يضبط حجمه المتضخّم) واقتطاعاً لنسب من ودائع زبائنه الكبرى والمتوسّطة وتحريراً لسعر صرف الليرة وتقليصاً للاستيراد وخصخصة لمؤسسات وتحديداً للإنفاق العام.
وهذه جميعهاً إجراءات تتطلّب في موازاتها ما هو مفقود في لبنان: قضاء مستقل وآليات مراقبة فاعلة وتشريعات تقدميّة لحماية حقوق الإنسان ونخبة سياسية تعمل بجدّية للحدّ من أضرار الإجراءات المالية والاقتصادية اجتماعياً، أي في ما يتعلّق بالبطالة وتراجع المداخيل والتعويضات واتّساع رقعة الفقر، لفترة غير قصيرة، ريثما يعود النموّ ويتراجع حجم خدمة الدين العام في الموازنات، ومثله حجم الدين مقارنة بالناتج المحلي.
وإذا كان المتفائلون بصندوق النقد يعتقدون أن الاتفاق معه على تدخّله وعلى خطّة “إنقاذية” سيجلب أموالاً من البنك الدولي ثم من أوروبا (بمبادرة فرنسية) وعبر “سيدر” ولاحقاً من دول خليجية تُضاف إلى ما سيضخّه مباشرة من مليارات (أربعة أو خمسة في أحسن تقدير)، فإن تلقائية الأمر غير مضمونة لأن المشروطيات لم تعد إدارية وتقنية فقط، بل هي أيضاً سياسية، ولأن اقتصادات العالم مأزومة راهناً بسبب كورونا على نحو لم نشهده منذ عقود طويلة…
في مواجهة كل ذلك، كيف يمكن التعامل مع المرحلة القادمة ومعضلتها وتحدّياتها في ظلّ تعذّر إسقاط السلطة القائمة، أو فرض إصلاحات سياسية عليها، أو إجبار المصارف على وقف إذلال المودعين على أبوابها، أو حتى إلزام القوى العسكرية والأمنية وأجهزتها المخابراتية بوقف التعدّي على المواطنين وعلى الحرّيات العامة والخاصة؟
الإجابة الوحيدة عن هذا الأسئلة تنطلق ممّا كانت بعض فعاليّات الانتفاضة الشعبية قد بدأت التأسيس له، قبل أن تُطيح به الخلافات والإنهاك وتراجع المعيشة والقمع العنيف من القوى الأمنية ومن حزب الله وبقايا ميليشيات أطراف السلطة، ثم من كورونا وحجره: بناء جبهة سياسية لا لُبس في شعاراتها وولاءاتها وعلاقاتها، ذات برنامج اقتصادي اجتماعي بديل (وقابل للتطبيق)، وذات مبادرات حقوقية ونقابية ومهنية وطلابية وشبابية وبيئية تستطيع تأطير الطاقات وحشد الناس في مواجهة مشاريع السلطة.
دون ذلك وما يفترضه من جهود وتضحيات، سيستمرّ إيقاع الانتفاضة بالارتفاع حيناً والهبوط أحياناً وستبقى الأمور في دائرة المراوحة والعشوائية والتصويب المُجتزأ وغير المجدي على هذا أو ذاك من مكوّنات السلطة، المقبلة من جهتها حتماً على المزيد من الاستشراس لتمرير الاتفاقات والصفقات…