منذ بدء التدخلات الإقليمية والدولية في الأزمة السورية، بدا المحور الروسي/الإيراني/السوري أكثر تماسكا وانضباطا من محور المعارضة المحلي والإقليمي والدولي.
لكن مع التدخل العسكري الروسي في سوريا بدأت تظهر تباينات هنا وهناك داخل هذا المحور حول طبيعة الحل في سوريا، تباينات تعكس مصالح ورؤية كل طرف استنادا إلى موقعه الجغرافي، الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن هذا المحور وإن كان متوحدا ومتراصا امام المخاطر، فإنه متباين بشأن الحلول.
تباينات عسكرية
من نافلة القول إن تدخل دولة بحجم روسيا عسكريا في سوريا لا يخضع لنفس الحسابات التي دفعت دولة إقليمية مثل إيران للتدخل في سوريا، فالموقع الدولي/السياسي لروسيا يختلف عن الموقع الإقليمي/الطائفي لإيران.
تنطلق موسكو من معادلة دولية واسعة تعتبر نفسها جزءا رئيسا فيه، وهنا تغيب الحسابات الطائفية لصالح الحسابات السياسية الواسعة، في حين تطغى على طهران الحسابات الطائفية أكثر من السياسية بحكم تكوينها الداخلي من جهة، وبحكم الصراع الإقليمي من جهة ثانية الذي بدأ ينحو منحى طائفيا منذ التدخل العسكري الأميركي في العراق عام 20033.
هذه التباينات ظهرت أولا مع الأسابيع الأولى للتدخل العسكري الروسي، حين عمدت الآلة العسكرية الروسية إلى ضرب الفصائل المعتدلة وخصوصا “الجيش الحر”، في تنفيذ كامل للمطلب الإيراني السوري، ووصل الأمر إلى حد استهجان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من وجود ما يسمى “الجيش الحر”.
غير أن موسكو بدأت تعي سريعا مخاطر توجهها العسكري هذا، وبسبب حسابات دولية وتفاهمات مع الولايات المتحدة سرعان ما بحثت عن “الجيش الحر” للتفاوض معه والاعتراف به وتحييده عن الضربات الجوية.
ثم ظهر الخلاف علنيا بعد السيطرة على حلب الشرقية وتحديدا مع عملية إجلاء المدنيين والمسلحين، حيث حاولت إيران عرقلة عملية الإجلاء وقتل كل المسلحين والمدنيين المشتبه فيهم، الأمر الذي دفع روسيا إلى التهديد بضرب كل من يطلق النار في إشارة إلى حليفيها النظام وإيران.
على أن التباين بين الجانبين بدأ يأخذ مسارا آخر مع “إعلان موسكو” -الذي قضى بوقف إطلاق النار- ومن ثم اجتماع أستانا؛ فبالنسبة لـ”إعلان موسكو” فإن وقف إطلاق النار يعني لإيران كبح جماحها العسكري في الشمال الغربي لسوريا، ويحول دون استكمالها حماية الشيعة بشكل تام في حلب قُبيل الانتقال إلى إدلب لاستعادة كفريا والفوعة. على أن أهم وأخطر تطور، كان حصر الإشراف على وقف النار في ثنائية روسيا/تركيا فقط، واستبعاد إيران كطرف ضامن.
وبالنسبة لاجتماع أستانا، فقد بدت طهران في قمة غضبها مع إدخال الروس الفصائل المعتدلة بشقيها العلماني والإسلامي في المعادلةالعسكرية والسياسية، وقد حاولت طهران ودمشق -طوال السنوات الماضية- مقاتلة هذه الفصائل بسبب مطالبتها بتغيير نظام الحكم السوري واستبداله بنظام ديمقراطي، وهو أمر يضرب العقيدتين العسكريتين لدى النظام وإيران القائمتين على منع أية محاولة ولو بسيطة لتغيير نظام الحكم.
ثم انتقل التباين بين طهران وموسكو إلى مستوى آخر ارتبط هذه المرة بصراع النفوذ الجغرافي، وبدا ذلك واضحا في وادي بردى غرب دمشق مع رفض “حزب الله” وإيران أي تدخل روسي في الصراع القائم هناك..، إنها رسالة إيرانية لروسيا بأن دمشق ومحيطها هما حصتنا الإستراتيجية بسبب قربهما من لبنان.
استجاب الروس للإيرانيين فحيدوا وادي بردى عن اتفاق الهدنة، لكن هذه النقطة عكست الرؤية الإستراتيجية لكلا الطرفين وحدود الخلافات بينهما.
وإذا كانت موسكو قد اعترفت بالمصالح الحيوية لإيران في سوريا، فإنها لن تسمح لأصحاب العمائم في طهران بالسيطرة على القرار العسكري السوري، ولذلك بدأ النظام -بطلب روسي صريح- إعادة تشكيل كل القوى شبه العسكرية، وخصوصا “الدفاع الوطني” المشكّل والمدعوم من إيران.
جاء إنشاء “الفليق الخامس ـ اقتحام” لهذا الغرض بالذات، لمنع انتشار السلاح بشكل عشوائي وفوضى أمراء الحرب ووضع الجميع تحت تصرف الجيش السوري، وبالتالي جعل قراره مرتبطا مباشرة بدمشق وحدها.
وليس صدفة أن ينتقد وائل الملحم العضو في مجلس الشعب علانية التمييز بين مقاتلي الجيش والقوات الرديفة، أي المليشيات المنتشرة سواء كانت سورية أو لبنانية أو عراقية أو إيرانية وغيرها. وبطبيعة الحال، لا يمكن لأي نائب في البرلمان أن يتجرأ على التصريح بذلك لو لم يكن قد دفع من أعلى لقول هذا الكلام.
تباينات سياسية
التباينات العسكرية ليست سوى جزء من تباينات سياسية أوسع، فموسكو تفضل حلا سياسيا يضمن بقاء مؤسسات الدولة خصوصا العسكرية التي كان للروس دور رئيس فيها منذ عقود خلت، بينما تفضل إيران سوريا ضعيفة وتابعة كما هو الحال مع العراق.
تنطلق السياسة الروسية في سوريا من قاعدة أن الحوار السياسي بين النظام والمعارضة هو الحل، بعيدا عن أية محاولة لإسقاط النظام بالقوة العسكرية، ولذلك كان التدخل العسكري الروسي ليس سوى هندسة جديدة للواقع بما يستجيب ويخدم مرحلة الحل السياسي.
هذا التباين بدا جليا من خلال تصريحات الطرفين: موسكو تؤكد دائما أن مصير الأسد يقرره السوريون، وأنها لم تتدخل من أجله شخصيا وإنما من أجل حماية الدولة السورية ومحاربة الإرهاب، وهي تدرك أن أي حل جدي يجب أن يبدأ بتقليص جزء من صلاحياته في مرحلة أولى تمهيدا للتغيير السياسي الكبير، وإن كان على المدى الطويل.
أما إيران، فترفض أي حل سياسي يقترب من الأسد، فمن دون الأخير سينتهي النظام السوري وبالتالي ينتهي النفوذ الإيراني في سوريا، الأمر الذي سينعكس سلبا على دورها في عموم المنطقة.
ويمكن تتبع مسار هذه التباينات بين الجانبين، بدءا من المبادرة الإيرانية ذات النقاط الست قبل أربعة أعوام، والمبادرة الثانية ذات النقاط الأربع عام 2015، وانتهاء بـ”إعلان موسكو” الأخير واجتماع أستانا المقبل.
ففي كلتا المبادرتين ركزت إيران على المستوى العسكري، بالتأكيد على أن الانتقال إلى المرحلة السياسية للحل يجب أن يأتي عقب وقف إطلاق النار وإنهاء محاربة الإرهاب، ولذلك كان طبيعيا أن تُصدر طهران في مبادرتيها آنذاك ضرورة إيقاف تدفق السلاح والمقاتلين إلى سوريا بطريقة غير شرعية، في إشارة إلى المعارضة وداعميها.
وحين انتقلت إلى المستوى السياسي، قدمت ذات الطروحات التي يطرحها النظام، من ضرورة تشكيل حكومة وطنية تخضع للنظام الحالي، وإعادة كتابة الدستور بما يتوافق وطمأنة المجموعات الإثنية والطائفية. بمعنى آخر، سعت المبادرة إلى بناء تحالف طائفي/إثني في مواجهة السُّنية السياسية، عبر تطمين الأقليات الطائفية والإثنية بوجود محاصّة سياسية على غرار لبنان والعراق.
وبناء على ذلك، يتشكل حلفٌ عابر للأقليات في مواجهة السُّنية السياسية، تكون الأقلية العلوية في قلبها لمنع تشكل كتلة سُنية من شأنها أن تمارس هيمنة في المستقبل.
لكن مع التدخل العسكري الروسي وإصرار موسكو على ضرورة الحل السياسي، بدأت طهران تستجيب جزئيا للمطلب الروسي، وجاءت هذه الاستجابة بطريقة غير مباشرة حين أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف -خلال لقائه وزير الخارجية الأميركي جون كيري في أوسلو يوم 15 يونيو/حزيران 2016- أنه أصبح يملك مزيدا من الصلاحيات بشأن الملف السوري.
لكن هذا التحول يبقى على مستوى التكتيك الإيراني ولا يتعدى التقيّة السياسية، حيث أكد ظريف قبل هذا اللقاء بيومين أن الأزمة السورية يجب حلها سياسيا، ويجب تثبيت الحل عبر الوسائل العسكرية.
هذه التقية السياسية لا تزال تسُود الخطابَ السياسي الإيراني إلى الآن، وليس تصريح أمین المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني قبل أيام سوى دليل على ذلك، حيث قال إن “اتخاذ أي قرارات نيابة عن الشعب السوري يتعارض مع مبادئ الديمقراطية وحق الشعوب في تقریر مصیرها، وإن الرئيس بشار الأسد یتمتع بشعبیة واسعة”.
وباختصار، ترفض إيران أية تسوية سياسية ولو كانت بسيطة، لأنها تشْبه كرة الثلج التي ستنتهي بتغيير النظام أو جزء كبير منه.
حدود الالتقاء والافتراق
التباين بين الدولتين لم يصل إلى مرحلة الاختلاف الحاد بسبب استمرار المخاطر، لكن مع اقتراب الأزمة شيئا فشيئا من نهايتها سترتفع وتيرة الخلافات، بسبب الافتراق بين الجانبين حيال الصيغة النهائية للحل.
كما يمكن وضع تصريح مرشد الثورة علي خامنئي في ذات المجال حين أعلن أنه “لا يمكن لبلد واحد (في إشارة إلى روسيا) أن يفرض وحده مستقبل سوريا”.
ومع ذلك، فإن حدود التلاقي بين الجانبين أكبر بكثير من حدود الاختلاف، وسيظل التعاون الإستراتيجي قائما بينهما، مع محاولة الإيرانيين تعزيز نفوذهم في سوريا على ثلاثة مستويات: عسكري/جغرافي، وسياسي، واقتصادي، استباقا لأي تسوية من شأنها أن تضعف نفوذهم.
تستفيد روسيا وإيران من بعضهما البعض؛ فبالنسبة لروسيا لا تشكل سوريا مصالح حيوية مباشرة كما هو الحال مع إيران، لكنها (أي سوريا) تشكل ورقة مهمة لموسكو في ضمان مصالحها العالمية، ومن دون إيران لا يمكن لروسيا أن تغيّر الميزان العسكري للصراع بما يخدم في النهاية رؤيتها.
وفي المقابل؛ استفادت إيران من روسيا في تغيير الميزان العسكري بعد فشلها -خلال السنوات الماضية- في إحداث انعطافة عسكرية لصالح النظام، لكن طهران -التي تعي ثمن التدخل العسكري الروسي- قررت دفع الأذى القريب بالأذى البعيد.