بعد 5 سنوات على اندلاع حرب مدمرة في سوريا، تخلى ياسر عن مهنة أحبها ليحمل السلاح، ووجد الفتى عثمان نفسه في ورشة سيارات بدل أن يواصل دراسته، وبدأ خالد من الصفر كلاجئ في بيروت حاملاً معه حرفة صناعة العود، مثلهم مثل آلاف آخرين تحطمت أحلامهم.
قبل النزاع كان ياسر نبهان (38 عاماً) يمتلك محلًّا لتجارة الأقمشة في السوق القديمة الأثرية بمدينة حلب في شمال البلاد، لكنه اليوم يجلس خلف مكتب في حي سيف الدولة في الجهة الشرقية الواقعة تحت سيطرة الفصائل المعارضة، يرتدي زيًّا عسكريًّا وإلى جانبه بندقية وجهاز لاسلكي.
يحاول أن يعيش
ويروي نبهان: “كنت أعمل في صناعة وتجارة الأقمشة في سوق المدينة التي تعد من أقدم أسواق العالم”، قبل أن تُدمر بشكل شبه كامل في المعارك في حلب في نهاية 2012.
ويضيف ياسر “لدي الكثير من الذكريات في سوق المدينة، ولكن لم يعد بإمكاني دخولها. فالشوارع يرصدها القناصة والقذائف تسقط بين الحين والآخر”.
وبعدما تحولت الحركة الاحتجاجية ضد الرئيس السوري بشار الأسد في 2011 إلى نزاع مسلح، حمل ياسر السلاح، وأبقى التحاقه بالفصائل المقاتلة كقناص سراً في بادئ الأمر، مواصلاً عمله.
ويقول “كنت أذهب إلى محلي في النهار، وعندما انتهي من العمل أذهب إلى إحدى الجبهات”، إلا أن حدة المعارك دفعته إلى “التفرغ للقتال”.
وفي 2013، فقد ياسر ساقه اليمنى في معارك في ريف حلب الشرقي. وعندها “حصلت نقلة نوعية في حياتي حيث لم يعد بإمكاني القتال (…) وأصبح عملي في الجيش الحر إداريًّا” ضمن كتائب “فاستقم كما أمرت”.
يعيش ياسر حالياً في منزله وحيداً بعدما أرسل زوجته وبناته الأربع قبل حوالي شهر إلى تركيا مع اشتداد القصف والمعارك، وخشية حصار كامل يهدد الأحياء الشرقية.
يحاول ياسر قدر المستطاع أن يعيش حياة طبيعية، وبرغم ساقه الاصطناعية يقضي وقتاً مع أطفال الحي في لعب كرة القدم.
يتذكر حياته السابقة ويقول “ما زلت أفكر في مهنتي السابقة، فتلك الأيام كانت من أجمل أيام حياتي، وإذا ما انتهت الثورة ربما أعود لبيع الأقمشة”.
من حلم بالهندسة إلى ورشة سيارات
يخرج الفتى عثمان النجار (12 عاماً) من تحت سيارة يصلحها في المنطقة الصناعية جنوب دمشق، يمسح يديه الملطختين بزيت السيارات وشحم المحركات التي يتعامل معها منذ خروجه مع عائلته من الغوطة الشرقية لدمشق قبل عامين.
تغيّرت حياة عثمان مع دخول النزاع عامه الثاني، حين اضطر إلى ترك مقاعد الدراسة والعمل مع شقيقه راشد (13 عاماً ونصف) في ورشة للميكانيك.
ويقول “أشعر أنني كبرت. كنت قبل الأحداث أدرس وألعب، أما الآن، فوجهي بوجه محركات السيارات والزيت والشحم. هكذا أصبحت حياتي، وليس بيدي حيلة”.
يبتسم عثمان، أو “أبو عيسى” كما يحبّ أن يُنادى عليه، بحسرة، موضحاً أنه يعمل مع شقيقه في المحل ويعيشان مع والديهما وشقيقتيهما في “العلية فوقنا”. ويقول “حياتنا كلها من الفرشة للورشة”.
يجلس أبو راشد (43 عاماً)، والد عثمان، في إحدى زوايا الورشة، وقد أقعده المرض وبات عاجزاً عن مزاولة عمل. يراقب عثمان بثيابه البالية وهو يحمل قطع الحديد لينظفها قبل إعادتها إلى محرك السيارة.
يقول وقد غزا الشيب رأسه وذقنه “كنا نقطن قرية حتيتة التركمان في الغوطة الشرقية، فهجّرتنا الأحداث، وخرجنا إلى هذه الورشة”.
يتنهّد أبو راشد طويلاً ويضيف، “كان عندي في الغوطة معمل طوب للبناء وسيارة ومنزل ومضافة كبيرة. أما الآن فتحوّلت من رب عمل وصاحب معمل إلى عاطل عن العمل”.
يتقاضى عثمان أجراً أسبوعياً لا يتجاوز الألفي ليرة سورية (حوالي 5 دولارات) يجمعها مع ما يتقاضاه شقيقه، ليؤمنا جزءاً من مصروف العائلة.
يقول عثمان والدموع في عينيه “أتمنى أن أعود إلى المدرسة، وأن أمتلك هاتفاً جوالاً. أتمنى أن يكون لدي لعبة بدلاً من هذا الشحم الذي يغطي يدي”.
ويتابع بوجوم “كنت أتمنى أن أدرس الهندسة، وكنت أحبّ مادة الرياضيات، كنت أود أن أكمل دراستي”.
حياة تبدلت بين دمشق وبيروت
خالد حلبي (31 عاماً) هو من الشبان السوريين الذين غيّر النزاع أولوياتهم وأحلامهم، فانتقل من دمشق إلى بيروت حاملاً معه حرفة صناعة العود الشرقي التي ورثها عن عائلته.
يقول خالد، وهو أب لطفلة، في غرفة تحت الأرض حولها مشغلاً لصناعة العود في أحد أحياء بيروت الشعبية، “علمتنا الحرب القسوة، قسيت علينا الأيام كثيراً. كان كل شيء ملكنا، لم أكن أعرف معنى الإيجار، بيتنا ومعملنا ملكنا (…) أما هنا، فأكد طيلة الشهر لأتمكن من دفع إيجار البيت والمحل”.
تعمل عائلة خالد في صناعة العود منذ أكثر من 120 عاماً في دمشق، ويخبر بحماس أن جدّه، وهو صانع آلات قانون ذائع الصيت وعازف على الآت موسيقية عدة، أهدى أم كلثوم عوداً من القصب لا يزال موجوداً في متحف خاص بها في القاهرة.
ويتذكر “معملنا كان في داريا وإنتاجنا كان جيداً بالنسبة للسوق السورية، لكن عندما بدأت الأزمة لم يعد بإمكاننا الوصول إليه (…) أتيت منذ عامين إلى لبنان، هنا أتقدم ببطء، لكنني أحاول أن أبني نفسي من جديد”.
وبعدما كان إنتاج المعمل في داريا -المدينة المحاصرة من قوات النظام في ريف دمشق- يتراوح بين 50 و75 عوداً شهريا، لم يعد انتاج خالد يتجاوز الـ10 قطع شهرياً في بيروت حيث يعمل وحده مع صديقه خليل، اللاجئ من حلب.
ويقول “في سوريا كلفة العود 100 دولار ولكنها كانت تكفي لإعالة عائلة. أما هنا فلا تكفي لفاتورة التعاونية”.
ويعيش عدد كبير من اللاجئين السوريين في لبنان في ظروف صعبة. وبرغم تأمينه مدخولاً يكفي عائلته الصغيرة، يعبر خالد عن غصة.
ويقول “ظروفنا لا تسمح لنا بالتفكير بالمستقبل. بالكاد نعيش اليوم، لكن إذا أردنا أن نفكر بالغد، طبعاً لن تجد أحداً لا يحب العودة إلى بلده”.
هافينغتون بوست