تبدّدت لحظة الانتظار لدى من علّقوا الآمال أوالمخاوف حيال المرحلة التالية من النزاع السوري، على حصيلة الانتخابات الرئاسية الأميركية. لكن مصير حلب لن ينتظر، بغض النظر عن المقاربة التي قد تنتهجها إدارة دونالد ترامب، حالما تُمسك بزمام السياسة الخارجية في الشهور الأولى من العام 2017.
وفيما تُثابر المعارضة في محاولاتها رفع الحصار عن الجزء الشرقي من حلب، يشير وصول التعزيزات الجوية والبحرية الروسية إلى شرق المتوسط وإطلاق القوات الموالية لنظام الرئيس بشار الأسد حملة قصف شديدة، إلى تدشين مرحلة تصعيد عسكري جديد.
لكن، وبدلاً من أن تنشط روسيا لتمكين نظام الأسد من شق طريقه بالقوة إلى قلب الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، يبدو أن آمالها تنصب، على العكس، على محاولة تجنّب الغرق في لجج معركة مُكلفة وطويلة، عبر استخدام هراوة الضغط لحمل المعارضة على إخلاء المدينة. وهذا في الواقع يفرض على المعارضة معضلة عويصة، إذ صحيح أن الصمود في شرق حلب يبقى أمراً ممكناً عسكرياً، إلا أن انتخاب ترامب، الذي سبق له أن أوضح بجلاء أنه ليس في وارد رفع أكلاف التدخل الروسي في سورية، يعني أن الثمار السياسية المحتملة لمواصلة الصمود، قد تشح وتتضاءل على نحو حاد. وفي المقابل، قد تطغى الأكلاف السياسية لعملية إخلاء حلب على أي مكاسب محتملة للمعارضة.
هنا، يوفّر الحصار الإسرائيلي لبيروت في صيف 1982 مقارنة وثيقة ولافتة للخيارات التي تُواجه المحاصِرين والمحاصَرين في حلب عام 2016. فقبل نيّف و34 عاماً، سعت إسرائيل إلى كسر ظهر الحركة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة المحتلتين، عبر إنزال هزيمة مجلجلة بمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت مطوّقة في بيروت. وبالمثل، تسعى روسيا الآن إلى كسر ظهر المعارضة السورية عموماً، من خلال إلحاق الهزيمة بالجماعات المسلّحة في حلب. لكن، ثمة مشكلة هنا: فنظام الأسد يفتقد إلى العديد والمعنويات لتنفيذ المهمة الشاقة والمضنية المُتمثِّلة في تطهير الأحياء المعمَّرة والآهلة بالسكان. وكما كان الأمر مع الجيش الإسرائيلي، الذي لم يشأ الغرق في أتون حرب شوارع في بيروت عام 1982، تستخدم روسيا مزيجاً من القوة النارية المركَّزة والإمساك بخناق إمدادات المواد الغذائية والماء والكهرباء، ومن العروض الدورية لتوفير ممرات آمنة للمدنيين والمقاتلين، بهدف حمل خصمها (وهو في هذه الحالة المعارضة المسلحة السورية) على الإذعان وقبول إخلاء حلب بلا شروط.
في المقابل، تبدو المهام العسكرية المقبلة المُلقاة على عاتق المعارضة المسلحة مُهيبة ومُثبطة، خاصة بعد أن أعلن المستشار الإنساني في الأمم المتحدة جان إيغلاند في 18 الشهر الجاري أن المساعدات الغذائية الدولية لنحو 275 ألف مواطن سوري قابعين تحت وطأة الحصار، قد نفدت. وهذا لن يفعل شيئاً سوى مفاقمة التحدي السياسي الذي يواجه المعارضة. فماذا يمكنها أن تفعل؟ قد تختار إطالة المقاومة ضد صولات الهجوم الضاري، بأمل رفع منسوب الضغط الدولي على روسيا، سواء للتوصل إلى وقف طويل لإطلاق النار وتوفير تدفق المساعدات الإنسانية، أو لانتزاع مكاسب سياسية ملموسة في مقابل الإخلاء. لكن، هل يمكن حقاً أن يقوم على أرض الواقع ضغط دولي فعّال فيما تتوالى مؤشرات لا تخطئ طيلة هذا العام أو أكثر عن تراجع الدعم الإقليمي للمعارضة السورية، وفيما تتزايد احتمالات التراجع الحاد في مستوى الانخراط والدعم الأميركيين؟ لا بل ثمة ما هو أهم: هل ستُساوي حتى أفضل المكاسب السياسية التي قد تقطفها المعارضة في مقابل مغادرة حلب، الأكلاف المادية والرمزية التي ستدفع؟
واجهت منظمة التحرير الفلسطينية معضلة مماثلة في بيروت عام 1982، فهي أدركت منذ بداية الحصار الإسرائيلي أنه سيتعيّن عليها إخلاء العاصمة اللبنانية، لكنها قررت الصمود أملاً في حصد أفضل الشروط السياسية. بيد أن الدول العربية لم تُبدِ استعداداً لمواصلة خوض غمار الدبلوماسية لصالح المنظمة، بعد أن رفضت الولايات المتحدة مناقشة أي شيء عدا سيناريوهات إخلاء المدينة. وفي هذه الأثناء، كانت سورية، وهي الدولة العربية الوحيدة التي شاركت في الحرب، تضع أولوياتها الخاصة: فهي وافقت بسرعة على وقف إطلاق النار مع الجيش الإسرائيلي، وأوقفت بعد ذلك مرور المتطوعين والأسلحة عبر أراضيها إلى منظمة التحرير. وحين أدرجت فرنسا مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو إلى انسحاب متبادل لإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (كما فعلت أخيراً بخصوص حلب)، مارست الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) ضده (كما فعلت روسيا أخيراً). وقد وافقت واشنطن لاحقاً على اقتراح مشترك فرنسي- مصري يربط حصار بيروت بتسوية المسألة الفلسطينية، لكنها سرعان ما أجهضته أيضاً عبر طرح مبادرة دبلوماسية منافسة، ما لبثت أن تخلَّت عنها فعلياً أيضاً. وهكذا، وبعد تبخُّر احتمال حصد المكاسب الدبلوماسية، ومع تصاعد وتائر القصف الإسرائيلي قررت منظمة التحرير في خاتمة المطاف مغادرة بيروت.
نأتي الآن إلى المعارضة السورية، فعلى رغم تمتّعها على مدى السنوات الأخيرة بدعم مالي ودبلوماسي سخي من الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي، والدول الخليجية الرئيسية، إلا أنها الآن في موقع يُشبه كثيراً ذلك الذي علقت منظمة التحرير بين براثنه. بالطبع هناك فروقات جلّية بين الحالتين: فالمعارضة تقاتل كلياً على أرضها، فيما واجهت منظمة التحرير الفلسطينية دعوات من معظم حلفائها اللبنانيين للمغادرة حالما أطبق الجيش الإسرائيلي على بيروت في العام 1982. علاوة على ذلك، في حين غادرت كل قوات منظمة التحرير لبنان بحلول نهاية العام 1983، سيكون في مقدور مقاتلي المعارضة المنسحبين من حلب التجمُّع ثانية في مناطق محاذية في سورية، كريف حلب ومحافظة إدلب.
بيد أن مضاعفات إخلاء حلب ستكون أكثر خطورة بما لا يقاس على المعارضة السورية، من خطوة مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان، فهذه الأخيرة أعادت توجيه جهودها نحو بناء حركة قاعدية واسعة وفّرت العمود الفقري للانتفاضة الأولى التي نشبت في الضفة الغربية وغزة العام 1987، والتي مهّدت الطريق إلى إجراء أول حوار مباشر بين المنظمة والإدارة الأميركية في العام التالي. أما بالنسبة إلى المعارضة السورية، سيدفع سقوط حلب الداعمين الخارجيين إلى الحد من مساعداتهم، في الوقت الذي ستُطلَق يد قوات النظام وستتوافر لها منصات وثوب إلى ما تبقى من مناطق المعارضة. بعض المقاتلين قد يلقي السلاح ويلجأ إلى المنفى، فيما قد ينضم البعض الآخر إلى المعسكر الجهادي أو يمارس العمل السري، عبر تنفيذ عمليات تفجير في مناطق النظام، ما يؤدي إلى مزيد من تآكل سمعة وجاذبية المعارضة في الداخل والخارج.
في ضوء كل هذه المعطيات، سيكون السؤال حول ما يتعيّن القيام به من بين أصعب التحديات التي ستُواجه المعارضة السورية، خاصة الجماعات الموجودة الآن في حلب، فقرار مغادرة بيروت عام 1982 تم إقراره بالإجماع بين فصائل منظمة التحرير، ومع ذلك أدى إلى تمرد داخلي استنزافي، وإلى حرب أهلية دامت ستة أشهر وخلّفت وراءها نحو 400 قتيل في السنة التالية. المنظمة حافظت على بقائها، ولكن فقط عبر التخلّي عن الخيار العسكري والانخراط، ببطء في خضم العمل الدبلوماسي. وبالمثل، قد يكون قرار مغادرة حلب أكثر مدعاة للانقسام في صفوف المعارضة السورية، وقد يؤدي حتى إلى عنف طاحن، كما دلّت حلقات الاقتتال الداخلي المتكررة داخل جيوب المعارضة المحاصرة -بما فيها حلب- طيلة هذا العام.
المخاطر إذاً أمام المعارضة ضخمة بالفعل، وقد يحدد القرار بشأنها مصير التمرد المسلّح برمته. صحيح أن وضع المدنيين العالقين في حلب قد يفرض نفسه على المعارضة، لكن النزاع السوري اتسم بحالات عديدة من الحصار المديد، وبالتالي فإن الإخلاء ليس مسألة حتمية، أو على الأقل ليس وشيكاً، فقد تنحو حلب نحو المسار الذي سبقها إليه مخيم اليرموك الفلسطيني في دمشق والبلدات الأربع مضايا والزبداني والفوعة وكفريا، التي شملها وقف إطلاق النار واتفاقات الإخلاء في أيلول (سبتمبر) 2015، لتدخل رغم ذلك في حالة النزاع المعلّق.
لكن، ومهما طال أمد صمود المعارضة في حلب، سيكون الاحتمال ضعيفاً للغاية أن يمد الداعمون الدوليون يد العون، خاصة بعد انتخاب ترامب. من الناحية الإيجابية، قد يدفع ذلك بروسيا إلى تخفيض وتيرة عملياتها القتالية في حلب بتوقع أن إدارة ترامب لن تقاومها في سورية على أي حال، ما يسمح لها بتقليص الأكلاف غير الضرورية والتركيز على أهداف ميدانية أخرى. ولكن من الناحية السلبية، ربما تستطيع المعارضة تأجيل بت مصير المدينة، لكن هذا يؤكد، بدل أن يحل، حقيقة افتقادها إلى استراتيجية بقاء قابلة للحياة، ناهيك عن انعدام إمكان تحقيقها النصر.
الحياة اللندنية