وفي الصباح بدأنا نعاين منازل الأصدقاء وقد حولها الانفجار إلى ركام. المنازل التي لم يسبق أن زرناهم فيها، ذاك أننا في بيروت كنا نلتقيهم في المقاهي والحانات وأماكن العمل. المنازل هي ذلك المكان الغامض التي يغادر إليه واحدنا حين ينهي لقاءاته، أو حين يُقفل نهاره. كنا نتثاقل حين يدعوننا إليها. ها هي اليوم مشرعة أمامنا وقد تولى الانفجار تحطيمها. منزل محمد نجم كان جميلاً على ما يبدو، ومنزل جود الذي دفع التفجير البراد فيه إلى غرفة الجلوس، ومنزل علي ابن عمي الذي أرسل لي صوره من دبي بعدما وصلته الصور من بيروت، وراح يقول لي إن ديانا زوجته كانت في بيروت قبل أيام وأقامت في المنزل وغادرته على ما تفعل كلما تغادر بيروت.
رينا سركيس، صديقتنا، صاحبة أحد أجمل منازل بيروت، تهاوى منزلها أيضاً، وأصيبت بشظايا وجروح. لم أجرؤ على الاتصال بها، ذاك أن مصابها مضاعف هي العائدة إلى المدينة من سفر متواصل. إياد ابن عمٍ آخر لي قتله الانفجار. كان علي في المساء أن أجعل من هذا الخبر تفصيلاً في مشهد الدمار الهائل، وأن انتظر حتى الصباح حتى أباشر حزني عليه. البقعة الفراغية التي خلفها الانفجار امتدت من رأس بيروت إلى الأشرفية. هذه المساحة هي تماماً مسرح حياتنا اليومية. العمل والحب والغضب والتظاهرة والمقال، وكل قصصنا مع هذه المدينة تدور في هذه المساحة. في ثوان قليلة أحرق الأمونيوم المنفجر الهواء وخلف فضاء فراغياً انهال بعده الضغط الجوي العاصف على المباني والوجوه ونثر الدماء والزجاج في أنحاء المدينة. شطب وجه إياد وحطم منزل رينا وأخذ بطريقة نحو مئة ضحية، وأرسل أكثر من ثلاثة آلاف جريح إلى المستشفيات الفقيرة.
بيروت لم تعد بيروت. إنها الانفجار الذي أحدثه الفساد والارتهان. إنها بيروت وقد التصقت بوجوه الرؤساء الكالحة. في الصباح كان علي أن أعاود التجول في الأحياء المنكوبة، لكنني لم أقوَ على هذه الخطوة. شرفة منزلي تطل على جنوب المدينة، بينما الكارثة حلت في شمالها وغربها، وهذا ليس كافياً لانفصالي عن نفسي وعن الانفجار. إياد الذي كنت ألتقيه على نحو عابر في الأحياء المنكوبة، وكنا نتبادل الاعتذارات، غادر مخلفاً صورة لرجل كان يصطحب ابن شقيقه ويقول لي بسعادة من استعاد وجه شقيقه الأصغر الراحل: “هذا ابن عبد اللطيف”. لقد أحرق الانفجار حكاياتنا الصغرى، وكشف لنا كم كانت بيروت كريمة معنا، وكم كانت تتسع لمشاعرنا وأهوائنا واختلافاتنا. كانت تتسع لأن يقول لي إياد أنا ابن عمك وما كان يجب أن تسألني قبل أن تكتب مقالك، وكانت بيروت تتيح لي أن أجيبه بابتسامة وبقبلة.
2700 طن من المواد شديدة الانفجار، أحرقت حكايات كثيرة وشطبت، آلافاً من الوجوه ومن المنازل الجميلة. وحدهم الرؤساء والوزراء من نجا من هذه الكارثة، ذاك أنهم محصنون في قصورهم، وهم أصلاً منفصلون عما يحصل في الحمراء وفي مار مخايل والجميزة والأشرفية من حياة عادية. هذه الأحياء التي تكرههم لطالما خرج منها المتظاهرون المطالبون برحيلهم. فالأزقة المؤدية إلى الوسط التجاري هي نفسها التي كان يسلكها أهل الأشرفية متوجهين إلى ساحة رياض الصلح وهم يهتفون “كلن يعني كلن”. الانفجار انتقم من محاولاتنا لانتزاع بلدنا من هؤلاء الفاسدين وهؤلاء الفاشلين والمرتهنين. لقد قتلوا حكاياتنا وذكرياتنا الطازجة، وهذا هو شر الانتقام. أن يصبح لقاء حصل بالأمس في حانة “bread republic” ذكرى لن تتكرر، وأن يشطب الانفجار مبنى عمره أكثر من مئة سنة تقيم فيه رينا سركيس التي كانت مشرعة منزلها للعابرين من مار مخايل.
الانفجار الخبيث أحرق حكايات بيروت كلها عن نفسها وعن أحزابها الفاسدة وعن الرؤساء المراوغين، خدم أسيادهم خارج المدينة وخارج الحدود.
وفي الصباح خرجت بيروت تبحث عن نفسها. أم لم يرد اسم ابنها بين أسماء القتلى والجرحى! لكن أين هو؟ إلى أين أخذه الانفجار؟ بيروت باشرت بتحسس جسمها. خَدَر الأمونيوك متفشِ في وجوهنا. الحكايات التي احترقت ما زالت عالقة في حناجرنا. ننتظر أن ينتحر رئيس أو أن يغادر عبر البحر. لن يفعلوا ذلك من تلقائهم. علينا أن نباشر شيئاً. علينا أن ننتقم لمدينتنا. من تسبب بدمارها له اسم وعنوان.
نقلا عن بيروت