لندن- “القدس العربي”: ناقش كل من أرون ديفيد ميلر وريتشارد سوكلوسكي في مجلة “بوليتكو” فكرة أن الشرق الأوسط لم يعد مهما للسياسة الخارجية الأمريكية كما كان. وميلر هو محلل سابق في الخارجية الأمريكية ومستشار للمفاوضين الديمقراطيين والجمهوريين في محادثات السلام الإسرائيلية- الفلسطينية. أما سوكلوسكي فهو زميل في وقفية كارنيغي للسلام العالمي.
ونقطة البداية لإظهار أن الشرق الأوسط لم يعد مهما هي تصريحات المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة جوزيف بايدن التي تعهد فيها أنه لو انتخب فسيعيد أمريكا “على رأس الطاولة” و”حشد العالم الحر لمواجهة التحديات التي تواجه العالم اليوم.. ولا أمة لديها القدرة على عمل هذا” غير الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي يهم فيه عودة أمريكا لقيادة العالم في مجال التعاون الصحي العالمي ومواجهة التغيرات المناخية والوقوف أمام ممارسات القرصنة التجارية الصينية إلا أن منطقة واحدة لم تعد مهمة لأمريكا كما كانت وهي الشرق الأوسط. فأيا كان الفائز في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر فمن المهم الاعتراف أن الشرق الأوسط المضطرب الذي تسافر إليه الأفكار لتموت لم يعد مهما للسياسة الخارجية الأمريكية ومصالح أمريكا. ولا يعكس التغير الديناميات الإقليمية الجديدة ولكن أولويات السياسة الأمريكية المحلية ومصالحها هناك.
ويقول الكاتبان إن القيادة والخصوصية الأمريكية لا يمكنها إصلاح الشرق الأوسط المحطم أو أن تلعب دورا يقوده إلى مستقبل أفضل. صحيح أن الولايات المتحدة لديها مصالح لحمايتها لكن على الأمريكيين أن يلتزموا بالواقعية والحصافة والانضباط لكي تؤمنها. فلو تصرف الأمريكيون بانضباط فسيجنبون أنفسهم المبالغة والغرور والمشاكل التي جلبوها على أنفسهم وتسببت بمعاناة غير ضرورية لهم ولغيرهم.
لو كانت الولايات المتحدة قلقة بشأن التزاماتها للشرق الأوسط في مرحلة ما قبل الوباء فعليها أن تكون حساسة بدرجة واضحة لكي تتجنب أي تورط في زمن كوفيد-19.
فلو كانت الولايات المتحدة قلقة بشأن التزاماتها للشرق الأوسط في مرحلة ما قبل الوباء فعليها أن تكون حساسة بدرجة واضحة لكي تتجنب أي تورط في زمن كوفيد-19. ويجب أن تكون الأولويات المحلية مقدمة على أي مغامرة في الشرق الأوسط ستأكل المصادر وتأخذ من وقت الرئيس. وستواجه الإدارة المقبلة أكبر تحد في التعافي منذ الأربعينات من القرن الماضي بدون أن تكون هناك حرب عالمية لإنعاش الاقتصاد الأمريكي وتركت أمريكا كقوة مهيمنة في العالم. وبالإضافة لهذا هناك أزمة استقطاب تقوم على الخطوط الطبقية والعرقية والسياسية وفقدان الثقة والأمانة بالمؤسسات الحاكمة. كما سيفرض العجز في الميزانية والدين العام قيودا على أي محاولة لمتابعة المصالح الأمريكية الحيوية منها في الخارج. وبالنظر إلى العناوين اليومية فإنها تؤكد التحديات الاستراتيجية التي تواجه الحكومة الأمريكية وتحرف نظرها عن الشرق الأوسط: فيروس كورونا الذي يعيث فسادا ويقتل الأمريكيين ومصادر حياتهم ومصداقيتهم حول العالم، الحرائق المندلعة في الغابات في كاليفورنيا، إعصار لورا، وموجات من الحر الشديد المرتبطة بالتغيرات المناخية وهناك الصين التي تستعرض عضلاتها في منطقة آسيا والباسيفيك. فيما تواصل روسيا سلوكها المارق كما في تسميم المعارض الروسي أليكسي نافانلي ومواصلة الكرميلن التدخل في الانتخابات الرئاسية بالإضافة لتصاعد القومية البيضاء داخل أمريكا. وكل هذه التحديات تمثل أولوية للسياسة المحلية أكثر من الإرهاب المتراجع والناشئ من الشرق الأوسط. وآخر ما تريده أمريكا هو تبذير مال تحتاج إليه بشدة على محاولات عبثية لإصلاح أو تحويل الشرق الأوسط. وأشار الكاتبان إلى تراجع الشرق الأوسط، خاصة دول الخليج كمصدر للطاقة، ففي أثناء الحرب الباردة كانت السياسة الخارجية الأمريكية تقوم على حماية تدفق النفط ومصادر الطاقة من الشرق الأوسط. وفي هذه الفترة كانت حصة الخليج وبشكل غير متكافئ مع احتياطات النفط العالمي الأخرى، وهذا أصبح تاريخا. فقد أدى اكتشاف كميات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي خارج منطقة الخليج وتطوير الطاقة النظيفة أو غير الأحفورية وتزايد إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة إلى تراجع أهمية المنطقة الاستراتيجية لأمريكا. كما استمرت أسعار النفط بالتراجع رغم المشاكل التي تمر بالعراق وإيران وليبيا التي أخرجت من السوق مليارات البراميل من النفط. وفوق هذا، فنسبة 85% من نفط الخليج تذهب إلى الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وليس الولايات المتحدة. وهذا لا يعني تراجع منطقة الخليج، فلا يزال نفطه يشكل 20% من الناتج العالمي وتمر نسبة ثلث النفط المنقول بحرا عبر مضيق هرمز. ومن هنا فلا تزال الحاجة قائمة للحفاظ على تدفق النفط بدون إرباك يؤدي لارتفاع أسعاره محليا. ولو حصل هذا فيمكن للولايات المتحدة تخفيف حدته عبر الأسطول الأمريكي الصغير في الخليج وفتح الاحتياطي الوطني لفترة قصيرة لتعويض النقص. وببساطة، أصبح لدى الولايات المتحدة القدرة للرد السريع على تأرجح الأسعار عبر آلية السوق. ولم يعد لأزمات الشرق الأوسط أي تأثير على أسعار النفط، وكل الدول المنتجة للنفط بما فيها إيران المشاكسة لديها مصلحة لكي يصل نفطها إلى السوق. وفي أطول حربين خاضتهما أمريكا في تاريخها وهما العراق وأفغانستان وأنفقت تريليونات الدولارات على مشاريع علمية واجتماعية فإن الناتج ظل قليلا. وهما تمثلان صورة عن الفشل. فلم يكن معيار النصر أبدا عن إمكانية النصر، وفيما إن كان النصر هو بناء مؤسسات مستقرة وموالية لأمريكا. ولا يوجد أي مبرر قادر على تسويغ التضحيات الأمريكية والعراقية والأفغانية.
الشرق الأوسط ليس ملكا لأحد ولا قوة في الداخل أو الخارج قادرة على السيطرة عليه. وبالتأكيد فأمريكا لم تعد كلب الحراسة القوي في المنطقة وهي ليست بحاجة إلى هذا.
وإذا لم تستطع أمريكا تحقيق ما تريده من خلال القوة العسكرية فإنها لن تحققه من خلال سياسة خارجية لا تعتمد على القوة العسكرية بما يعني ذلك من تفعيل الدبلوماسية وزيادة المساعدات وبرامج بناء الديمقراطية، فهذا تفكير خيالي ولا يفهم واقع الشرق الأوسط. فقد أدت الخلافات الطائفية والعرقية والجهوية والتنافسات القبلية وندرة القيادة وغياب حكم القانون ونقص الحريات الأساسية وفقر الحكم وضعف المؤسسات وغياب الشفافية واحترام حقوق الإنسان والتباين بين الجنسين والفساد المستشري لخلق تحديات لا تستطيع أمريكا حلها بنفسها. فهذه تحديات على سكان المنطقة تحمل مسؤوليتها وحلها. وتواجه أمريكا والحالة هذه معضلة، فهي عالقة في منطقة غير قادرة على تحويلها أو مغادرتها لأن لديها مصالح وحلفاء وأعداء فيها. وعليه فمفتاح النجاة والنجاح ليس فهم محدودية التأثير الأمريكي ولكن التفريق بين المصالح الحيوية والهامشية. فالمصالح الحيوية هي تلك التي تؤثر على الأمن والازدهار وطريقة الحياة والتي يمكن للرئيس نشر قوة ويخاطر بحرب وينفق مصادر مهمة ويستثمر فيها الرئيس سمعة ومصداقية أمريكا. وهذا لا يعني تجاهل واشنطن التحديات الكثيرة التي تعاني منها المنطقة، خاصة الأزمة الإنسانية في سوريا واليمن. وعلى أمريكا ألا تستثمر في نزاعات عبثية، لا تمس المصالح الأمريكية الحيوية ولا يريد اللاعبون فيها القيام بدور كبير لحلها. وكمثال يشير الكاتبان للنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. فالمصالح الأمريكية الحيوية في المنطقة هي ثلاث: الحد من الإرهاب وحماية النفط واستمرار تدفقه ومنع إيران من الحصول على السلاح النووي. وقبل خروج ترامب من الاتفاقية النووية كانت أمريكا تقوم بمهمة جيدة لحماية هذه المصالح. ومنذ هجمات 9/11 لم تتعرض أمريكا لهجوم إرهابي من الخارج. والمفارقة، وحسب دراسة علمية موثقة هي أن أمريكا أنفقت 6 تريليونات دولار لمواجهة ذلك التهديد وتجاهلت تهديد الوباء الذي قتل 180.000 أمريكي ودمر الاقتصاد. ولا حاجة لنشر قوات أمريكية على أراض أجنبية ويمكن استخدام القوات البحرية والخاصة في بلد لمواجهة المنظمات التي تريد الإضرار بأمريكا. وربما فطمت أمريكا نفسها عن النفط العربي، لكن العالم لا يزال بحاجة إليه، ومن هنا فأي إرباك للنفط سيترك أثره على الاقتصاد العالمي والأمريكي أيضا. وربما كانت إيران قادرة على إغلاق مضيق هرمز لكنها لا تملك القدرة العسكرية لإغلاقه بشكل دائم، وليس من مصلحتها هذا. ويمكن لأمريكا في هذه الحالة حماية تدفق النفط من الخليج بدون أي زيادة كبيرة للقوات أو استثمار اقتصادي واسع. وتظل إيران دولة واقعة وسط عالم عربي سني وهي ليست قوية وتعاني من عقوبات اقتصادية. والطريق الوحيد لمنع إيران من تطوير برنامجها النووي هو العودة لاتفاق ما. وعلى الإدارة المقبلة أن تختبر المياه مع طهران ومعرفة ما هو ممكن. وسيظل الشرق الأوسط يعاني من فوضى في السنين المقبلة، وهو منطقة لا يمكن التكهن بها وربما قدم لأمريكا أزمات لا تتوقعها. ولكن عليها ألا تعرض نفسها للفشل من خلال ملاحقة طموحات غير واقعية والتعامل مع المنطقة بطريقة أكبر مما تعنيه. وفي رسالة لبايدن: الشرق الأوسط ليس ملكا لأحد ولا قوة في الداخل أو الخارج قادرة على السيطرة عليه. وبالتأكيد فأمريكا لم تعد كلب الحراسة القوي في المنطقة وهي ليست بحاجة إلى هذا.
نقلا عن القدس العربي