في يوم صيفي لطيف في لندن عام 1951، أخبر ضابط بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية ثلاثة من مسؤولي شركات النفط البريطانية عن خطة سريّة للحكومة الأمريكية كان الهدف منها هو تخريب صناعة النفط في الشرق الأوسط في حال غزو الاتحاد السوفياتي للمنطقة. في هذه الحلة، كان سيتم ضرب الآبار النفطية وتدمير المعدات وخزانات الوقود وتعطيل المصافي وخطوط الأنابيب من أجل منع سيطرة الاتحاد السوفييتي على موارد النفط القيمة في الشرق الأوسط. أطلقت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية على هذه الخطة اسم “سياسة الحرمان.”
هذه الخطة لا يمكن أن تنجح دون تعاون الشركات البريطانية والأمريكية التي سيطرت على صناعة النفط في الشرق الأوسط، وهذا هو السبب في أنَّ عميل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، جورج بروسنج، أصبح مسؤولًا في وزارة الوقود والطاقة في لندن اليوم. رأى الممثلون البريطانيون لشركات “نفط العراق” و “نفط الكويت” و”نفط البحرين”، أنَّ بروسنج أوضح كيف ستتحول عمليات الإنتاج في تلك البلدان إلى قوة شبه عسكرية مدربة وجاهزة لتنفيذ خطة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في حال وقوع الغزو السوفياتي. ولذلك، طلب المساعدة من تلك الشركات، واتفقوا على التعاون. وأكّد أيضًا على الحاجة إلى الأمن، الذي تضمن الحفاظ على سريّة هذه السياسة دون معرفة دول الشرق الأوسط المستهدفة. وقال لهم بروسنج: “الأمن الآن هو أكثر أهمية من نجاح أي عمليات”.
سياسة الحرمان التي تبنتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هي مجرد مقتطف من تاريخ الحرب الباردة الذي بدأ يكشف عن أسراره في النهاية. في عام 1996، ظهر وصفًا موجزًا للخطة بعد رفع السريّة عنه بطريق الخطأ من قِبل المكتبة الرئاسية للرئيس الأمريكي هاري ترومان، وهو خرق أمني اعتبرته هيئة المحفوظات الوطنية الأسوأ في تاريخها، وقد تسربت بعض التفاصيل الإضافية على مدى السنين الماضية. لكن الكشف الأخير عن الوثائق المخبأة في الأرشيف الوطني البريطاني، جنبًا إلى جنب مع بعض الوثائق الأمريكية الرئيسية، التي رُفعت عنها السريّة الآن، يوفر لنا سردية متكاملة وكاشفة ننشرها هنا لأول مرة.
بيدَ أنَّ سياسة الحرمان التي اعتقد الكثيرون أنها انتهت خلال رئاسة أيزنهاور، كانت مستمرة لفترة أطول من ذلك بكثير، عالقة في إدارة كينيدي. وتكشف الوثائق البريطانية التي تمّ اكتشافها مؤخرًا أنَّ بريطانيا كانت مستعدة لاستخدام الأسلحة النووية لمنع الاتحاد السوفيتي من السيطرة على النفط في الشرق الاوسط. وتُظهر الوثائق أيضًا أنَّ وكالة الاستخبارات المركزية لعبت دورًا أكبر بكثير مما كان يعتقد البعض سابقًا. كان من المعروف تورط وزارة الخارجية الأمريكية ومجلس الأمن القومي بشكل ملحوظ، ولكن في الواقع، كانت وكالة الاستخبارات هي القوة الدافعة للعملية برمتها، من حيث تنظيم الشركات الأمريكية والبريطانية لتنفيذ سياسة الحرمان، ووضع الخطط، وتوفير المتفجرات والتجسس على بعض من تلك الشركات كجزء من الإشراف عليها.
تاريخ هذه المؤامرة السرية من الحكومة الأمريكية هو مزيج مضطرب من القومية العربية، وشركات النفط الكبرى ووكالة الاستخبارات المركزية على أغنى موقع نفطي على وجه الأرض. إنها حكاية ذات أهمية متزايدة للنفط في الشرق الأوسط وتعطش الغرب للسيطرة عليه. وبعد عقود من الزمن، مع استمرار هذا العطش في تحريك انخراط الولايات المتحدة في المنطقة المضطربة، يجدر بنا أن نتذكر هذا المخطط المحفوف بالمخاطر حيث بدأ كل شيء.
ظهرت سياسة الحرمان النفطي في عام 1948 أثناء حصار برلين، عندما حاول الاتحاد السوفيتي منع وصول الغرب إلى المدينة الألمانية. أثار الحصار المخاوف من أنَّ العدوان الشيوعي سيشمل اجتياح إيران والعراق وصولًا بالخليج العربي، وهو غزو جعل إدارة ترومان تشعر بالقلق من أنَّ القوات الأمريكية وحلفائها لن تكون قادرة على ردعه. لكن الشركات الأمريكية والبريطانية سيطرت على نفط الشرق الاوسط، وقررت الحكومة الأمريكية وضع تدبير لسد الفجوة لعرقلة الجيش السوفياتي من خلال ضمان عدم إشباع نهمه للوقود عن طريق الحصول على النفط.
كانت خطة مجلس الأمن القومي، المعروف رسميًا باسم مجلس الأمن القومي 26/2 (الذي وافق عليه الرئيس هاري ترومان في عام 1949)، هو أن تقوم تلك الشركات الأمريكية والبريطانية بتدمير أو تهميش موارد ومنشآت النفط في الشرق الأوسط مع بداية الهجوم السوفياتي. ووفقًا للوثائق التخطيط من مجلس الأمن القومي 26/2، فإنَّ وزارة الخارجية الأمريكية كان من المقرر أن توفر الرقابة، في حين تتعامل وكالة المخابرات المركزية مع التفاصيل التشغيلية لكل بلد.
واستنادًا إلى وثائق مجلس الأمن القومي، تواصلت وكالة الاستخبارات على الفور مع تيري دوتشي، نائب رئيس شركة أرامكو للعلاقات الحكومية، للحصول على مشورته حول تنفيذ خطة حرمان سريّة في المملكة العربية السعودية. كانت شركة أرامكو لديها الحق في إنتاج النفط السعودي، وكانت على علاقة وثيقة مع حكومة البلاد. دوتشي، الذي كان يحب ارتداء قبعة سوداء وألعاب التجسس، عمل فترة طويلة في إدارة قطاع البترول في الحكومة الفيدرالية خلال الحرب العالمية الثانية، وكان معروفًا في واشنطن. وكان ألين دالاس، الذي أصبح لاحقًا مدير وكالة الاستخبارات المركزية، ضيفًا دائمًا في منزل دوتشي.
شركة أرامكو، المملوكة حينها لشركة إكسون وشركة موبيل وشركة شيفرون وشركة تكساكو، أقحمت نفسها في هذه الخطة من خلال تقديم مشورة حاسمة لوكالة الاستخبارات المركزية، بشأن كيفية سد آبار النفط وتعطيل المصافي. ومن خلال دوتشي، طوّعت شركة أرامكو موظفيها لتنفيذ الخطة، وكانت على استعداد للتفكير في تجنيدها في صفوف الجيش في حال بدء الخطة.
في ذلك الوقت، وفقًا لوثائق وزارة الخارجية البريطانية، تمّ إبلاغ الحكومة البريطانية بشأن مجلس الأمن القومي 26/2 ومن ثمّ قدّمت دعمها لهذا الإجراء، واتفقت على إعداد خطط حرمان للشركات النفطية في إيران والعراق. اختلف نهج بريطانيا منذ البداية: في حين كانت استراتيجية وكالة المخابرات المركزية في المملكة العربية السعودية تعتمد كليًا على موظفي أرامكو لا على الجيش الأمريكي، استخدمت الخطة البريطانية القوات المحمولة جوًا لحماية ومساعدة المئات من موظفي شركة النفط الذين سيشاركون في تدمير المنشآت النفطية.
بيدَ أنَّ المؤامرة الطموحة لوكالة الاستخبارات المركزية تسير على ما يرام. ولكن لم يمض وقت طويل حتى بدأت هذه البداية الواعدة تتغيّر. لقد تحوّلت شركات النفط البريطانية إلى مجرد وسيلة متكررة للتعاون أكثر مما كانت حكومتهم. وفي أواخر عام 1950، أدرك السير توماس فريزر، رئيس شركة النفط الأنجلو إيرانية، الجوهرة التي تلاشى بريقها في الإمبراطورية البريطانية، لأول مرة أنَّ شركته من المتوقع أن توفر المئات من الموظفين لتنفيذ نظام الحرمان. وخشى فريزر من الابتزاز الاقتصادي، والطرد، إذا علمت الحكومة الإيرانية بمشاركة شركته، ولذلك سحب فريزر شركة النفط الأنجلو الإيرانية من الخطة في أواخر عام 1950.
جورج ماكغي، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية، كان غاضبًا. وفي فبراير عام 1951، استدعى مسؤولًا بريطانيًا إلى منطقة “ Foggy Bottom” وقال له إنّه قد حان الوقت لأن تحدد حكومته موقفها بغض النظر عما تفكر فيه شركة النفط الأنجلو-إيرانية، التي عُرفت فيما بعد باسم “بريتيش بتروليوم”. وقال ماكغي، وفقًا لمذكرة بريطانية بشأن هذا اللقاء: “لقد كان من غير المبرر أن ترتيبات الحرمان من النفط ينبغي ألّا تكتمل حتى أدق التفاصيل”. وبعد بضعة أسابيع، عرضت الحكومة البريطانية مخطط الحرمان من النفط على إيران التي اعتمدت كليًا على القوات العسكرية واقترحت نهجًا مماثلًا في العراق. ووفقًا للوثائق البريطانية التي تكشف عن الاتصالات مع وزارة الخارجية الأمريكية، فاجأ هذا الاقتراح المسؤولين الأمريكيين، الذين اعتقدوا أنَّ الخطة ستفشل بدون الخبرات والأيدي العاملة التي توفرها شركات النفط.
لكن ما لم تعرفه الولايات المتحدة حينها هو أنَّ البريطانيين كانوا على استعداد للاستفادة من شركات النفط للمساعدة، وأنَّ شركات النفط كانت على استعداد لتقديم المساعدة. ومع ذلك، لم ترغب لندن في معرفة الولايات المتحدة بهذا الأمر، خوفًا من أنَّ معرفة الولايات المتحدة ستكشف عن هذا السر. “نحن ملتزمون بعدم السماح لهم بمعرفة مدى تعاون شركات النفط البريطانية” هكذا قال د.ب رايلي من وزارة الخارجية البريطانية لمسؤول عسكري بريطاني، بعد أسابيع قليلة من لقاء ماكغي.
عندما تمّ تعيين جورج بروسنج، عميل وكالة الاستخبارات المركزية المكلّف بالعمل مع شركات النفط في الشرق الأوسط بشأن خطط الحرمان، في وزارة الخارجية يوم 1 مايو 1951، قال إنّه يأمل في إقناع اثنين من المسؤولين الدبلوماسيين والعسكريين البريطانيين هناك لمقابلته وأنهما بحاجة لمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية لتنفيذ استراتيجياتهما. وأعطاهم لأول مرة تفاصيل دقيقة لخطة أرامكو التي ساعد على تطويرها، على أمل أن تكون نموذجًا لبقية المنطقة.
وفقًا للملاحظات البريطانية على إحاطة بروسنج، تمّ تنظيم خطة حرمان أرامكو حول المناطق الإدارية الثلاث للشركة في المملكة العربية السعودية. خمسة وأربعون من كبار موظفي أرامكو كانوا ضمن هذه الخطة. وإجمالًا، تمّ تخصيص 645 موظفًا للمشاركة، ولكن معظمهم يُعرفون بأدوارهم الفردية لمنع الكشف عن الخطة الشاملة.
وبالإضافة إلى ذلك، تمّ إدراج خمسة عملاء سريين من وكالة المخابرات المركزية في شركة أرامكو وتعيينهم في وظائف مثل أمين مخزن ومساعد المدير العام. وكانت مهمتهم هي إخبار وكالة الاستخبارات بعمل الشركة على خطة الحرمان وأي تطورات قد تؤثر عليها. خارج وكالة المخابرات المركزية، لم يكن هناك سوى مسؤول تنفيذي من أرامكو ومسؤول في وزارة الخارجية على علم بالوظائف الحقيقية للعملاء”.
وكان الهدف هو منع السوفييت من استغلال النفط والوقود المكرر في المملكة العربية السعودية لمدة تصل إلى سنة في حالة وقوع الغزو. تكشفت الخطة على مراحل، بدءًا من تدمير مخزون الوقود وتعطيل مصفاة أرامكو. هذا الهدم الانتقائي سيدمر المكونات الرئيسية للمصفاة التي يصعب على الروس استبدالها. وهذا من شأنه أن يترك الكثير من مكونات المصفاة سليمة، مما يجعل من السهل على شركة أرامكو استئناف الإنتاج بعد الإطاحة بالسوفييت.
ووفقًا للملاحظات البريطانية عن هذا الاجتماع، فإنَّ وكالة المخابرات المركزية استوردت بالفعل المتفجرات ذات النوعية العسكرية في المملكة العربية السعودية، لتناسب أجزاء معينة، ولتخزينها في المخابئ ووضعها على ممتلكات شركة أرامكو. وكان سيتم استخدام قاذفات اللهب على نطاق واسع لإذابة أجزاء المعدات الصغيرة. وتضمنت الأسلحة الأخرى قنابل خاصة لتدمير مخزونات الوقود، إلى جانب تكليف شاحنات الإسمنت بتدمير آبار النفط.
كان من المقرر استخدام الشاحنات وعربات السكك الحديدية والمولدات ومعدات الحفر لتدمير منشآت النفط أيضًا. وقال بروسنج إنَّ موظفي أرامكو، إلى جانب تلقيهم عمولات عسكرية، سيتم تأمينهم بمجرد الانتهاء من عملية الحرمان.
أعجبت هذه الإحاطة جي بيكيت، ملحق السفارة البريطانية في واشنطن، الذي أرسل برقية إلى لندن وأخبرهم أنَّ أرامكو ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية “وضعوا طريقة عمل مرضية لهذا النوع من التخطيط السريّ ومتحمسين لتوسيع أنشطتهم لتغطية ما تبقى من حقول النفط.”
سعى بروسنج للحصول على موافقة لتنفيذ مثل هذه الخطط في البحرين والكويت وقطر، حيث كانت تعمل مجموعة من شركات النفط الأمريكية والبريطانية. وبالفعل قبلت بريطانيا، السلطة الحاكمة في تلك البلدان، اقتراح بروسنج طالما أنَّ بريطانيا ستظل المسؤولة عن تنفيذ خطط الحرمان في الكويت وقطر. (تمّ تأجيل قرار أي بلد ستنفذ الخطة في البحرين على الرغم من أنَّ بريطانيا كانت تميل إلى إعطائها إلى الولايات المتحدة).
ظلت بريطانيا المسؤولة عن وضع خطط الحرمان في إيران والعراق، لكن بروسنج لم يقدّم أي مساعدة لوكالة الاستخبارات المركزية. وتحقيقًا لهذه الغاية، رتب مسؤولون بريطانيون لقاء في لندن، انتهى بإخبار بروسنج المديرين التنفيذيين عن شركات النفط في الكويت والبحرين والعراق في يونيو عام 1951. وهناك، وفقًا للملاحظات البريطانية عن اللقاء، استعرض بروسنج خطط أرامكو مع رجال الأعمال وقال إنّه مستعد لتقديم المشورة والمساعدة في وضع خطط الحرمان الخاصة بهم. وفي النهاية، اتفق الجانبان على المساعدة.
كانت هناك علامات تقدم أخرى في المنطقة، مع إنهاء شركة نفط البحرين ونفط الكويت خطط الحرمان الخاصة بهما على غرار شركة أرامكو في حين وافقت شركة النفط البريطانية في قطر على التعاون مع وكالة المخابرات المركزية، وفقًا لوثيقة مجلس الأمن القومي التي تتبعت تقدّم خطة الحرمان. وذكر وفد أمريكي أثناء زيارة إلى الشرق الأوسط في أواخر عام 1951 أنَّ “خطط ما قبل الحرب لتدمير المنشآت النفطية لم تكن بتلك المثالية من قبل.”
ولكنَّ هذه الثقة كانت سابقة لأوانها نظرًا لأنَّ المديرين التنفيذيين في شركة أرامكو، وشركة نفط الكويت وشركة نفط البحرين كان لهم رأي مختلف. وقالوا للمسؤولين الأمريكيين في عام 1952 إنهم لم يتخذوا أي قرارات نهائية حول دور شركاتهم في تنفيذ خطة الحرمان. وقال باركر هارت، القنصل العام في وزارة الخارجية الأمريكية في المملكة العربية السعودية في ذلك الوقت: “أعتقد أنهم رأوا مدى صعوبات تنفيذ تلك الخطط.”
وشملت هذه الصعوبات استخدام الموظفين لتنفيذ هذه السياسة. وعلى الرغم من أنَّ الشركات قد تبنت هذه الفكرة في البداية، كانت لديهم بعض الشكوك حول سلطتهم لإجبار العمّال على المشاركة في هذه العملية الخطيرة. يمكن معالجة هذه المشكلة عن طريق استخدام المتطوعين، ولكن الشركات أرادت الحماية العسكرية، وهو شيء لم يكن جزءًا من خطط وكالة الاستخبارات المركزية. ولكن المشكلة الأكبر التي واجهت هذه الشركات، مثل شركة النفط الأنجلو-إيرانية، تركزت على الآثار الاقتصادية إذا تسربت خطط الحرمان للحكومات المضيفة: أرامكو، على سبيل المثال، كانت تنتج أكثر من ضعف كمية النفط التي كانت تنتجها عندما وافقت على مساعدة وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1948، وارتفاع قيمة العائدات يعني أنَّ الشركة أقل استعدادًا للمخاطرة بإثارة غضب المملكة العربية السعودية.
ومن أجل البحث عن بعض الضمانات، طلبت شركة نفط الكويت وشركة نفط البحرين رسائل من الحكومتين البريطانية والأمريكية تفيد أنَّ شركاتهم مكلفة بتنفيذ خطة الحرمان. ويمكنهم إظهار هذه الرسائل إلى المسؤولين في حكوماتهم المحلية في حال تسريب هذه الخطط، الذي كانوا يأملون أنها ستنقذ شركاتهم. لكنَّ وزارة الخارجية الأمريكية رفضت تقديم مثل هذه الرسائل، وقالت إنها غير ضرورية. ومع ذلك، كانت هناك أدلة وافرة في ملفاتها تُظهر أنها ضغطت على الشركات للتعاون. ورفض مسؤولون بريطانيون هذا الطلب الذي بدا وكأنه وسيلة للضغط يمكن استخدامها في أي مناقشات لاحقة بشأن التعويضات.”
، في ذلك الحين، جربت شركة أرامكو وشركة نفط الكويت أكبر منتجي النفط في الشرق الأوسط بعد انخفاض الإنتاج في إيران في أعقاب تأميم شركة النفط الأنجلو-إيرانية، طريقة أخرى عن طريق الضغط بالكشف عن خطط الحرمان للمملكة العربية السعودية والكويت. رفضت الولايات المتحدة مرة أخرى، لأّنها كانت على وشك أن تطلب من بعض دول الشرق الأوسط الانضمام إلى تحالف عسكري (الذي ُعرف فيما بعد باسم حلف بغداد عام 1955). واعتقد مسؤولون أمريكيون أنَّ الكشف عن سياسة الحرمان يمكن أن يعرقل هذا التحالف الناشئ.
وبذلك، قررت أرامكو أنَّ المخاطر الاقتصادية للشركة كانت كبيرة للغاية وطالبت بإزالة خطط الحرمان والمتفجرات من ممتلكاتها. واعتقدت الشركة أنَّ زيادة التدريب على خطط الحرمان والعدد المتزايد من الموظفين السعوديين في شركة أرامكو قد أحدث خرقًا أمنيًا لا مفر منه، ووافقهم في ذلك الدبلوماسيون الأمريكيون في البلاد. “لن تفلتوا من ذلك دون عقاب” هكذا قال القنصل الأمريكي لوزارة الخارجية الأمريكية.
لكنَّ جورج ويبر شكّك في فائدة الهدم الانتقائي وتعطيل المنشآت النفطية نظرًا لأنَّ السوفييت سيدمرونها عندما يجبرون على التراجع. وفى الوقت نفسه، فإنَّ زيادة التدريب على الهدم الانتقائي من قِبل الشركات النفطية كان يزيد من فرص حدوث تسريبات أمنية، وقال ويبر في مذكرة إلى كاتلر، مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي أيزنهاور: “أعتقد أنه ينبغي على المجلس النظر بعناية فائقة في الحكمة من هذا البرنامج.”
سياسة الحرمان لم تمت، ولكن ويبر طرح تغيير هذه السياسة، وبعد بضعة أشهر وافق أيزنهاور على استبدالها: مجلس الأمن القومي 5714. وظلّ تدمير المنشآت النفطية في حال وقوع الغزو السوفيتي جزءًا من الخطة كحل أخير، ولكن فقط مع “العمل العسكري المباشر” في مقابل اشتراك الموظفين بتوجيه من وكالة المخابرات المركزية. وفي النهاية، تمّ التخلي عن شراكة وكالة المخابرات المركزية مع شركات النفط. وقال وليام رونتري، مسؤول بارز بوزارة الخارجية، في مذكرة: “أصبحت السريّة عن طريق الوكالات المدنية غير عملية”.
أصبحت السياسة الجديدة أكثر استباقية، تتأرجح نحو حماية المنشآت النفطية في مواجهة التهديدات الجديدة، مثل التخريب والحرب الإقليمية، بالإضافة إلى الغزو السوفياتي. وفي هذا الصدد، طُلب من بلدان الشرق الأوسط القيام بدور غير مسبوق. وكان من المفترض أن تعمل شركات النفط والحكومات المحلية معًا لتعزيز الأمن، بما في ذلك أمن المنشآت النفطية للحماية ضد أي هجوم. وكان المفترض أيضًا أن تتعاون الحكومات المحلية في سد آبار النفط من أجل حفظ النفط حتى يستخدمه الغرب في وقت لاحق.
وقال ويبر: “ولذلك، اتخذ تطور هذه السياسة خطوة أخرى”.
لم يضع هذا التحوّل حدًا للخطط الأمريكية والبريطانية الأخرى التي تشمل السيطرة على النفط في الشرق الأوسط. كانت هناك مبادرة أمريكية أوسع في عام 1958، لا تتعلق بمجلس الأمن القومي 5714ـ دعت لاستخدام القوة العسكرية كحل أخير ضد القوميين العرب، للحفاظ على تدفق النفط بأسعار معقولة. ونتيجة لذلك، خطط البريطانيون في عام 1957، على اعتبار أنَّ الغزو السوفياتي غير محتمل، لاستخدام الجيش لحماية المنشآت النفطية في الكويت والبحرين وقطر في حال التهديد عن طريق “التخريب المصري”.
ومن غير الواضح كيف توافق مجلس الأمن القومي 5714 مع هذا المشهد الأمني الجديد في منطقة الشرق الأوسط. ولكن عدد قليل من الوثائق السريّة تكشف لنا الكثير عن مصير هذا المجلس، بما في ذلك ما إذا كانت أي من الحكومات المحلية وافقت على التعاون أم لا. في عام 1963، سأل البيت الأبيض وزارة الخارجية ما إذا كان يجب إلغاء مجلس الأمن القومي 5714، واستبداله بكيان آخر، أم أنّه لا يزال يمثّل سياسة الولايات المتحدة. وهذه هي الوثيقة الأخيرة التي استطعت العثور عليها بشأن خطة الحرمان في أمريكا أو بريطانيا. والإجابة ليست في هذا الملف، ومن غير الواضح متى انتهت هذه السياسة.
يجب ألّا نتفاجأ من خطة الأرض المحروقة هذه؛ ففي حال غزا السوفييت أوروبا الغربية خلال الحرب الباردة، فمن المحتمل أن الولايات المتحدة كانت لتطلق العنان للأسلحة النووية لوقف السوفييت. وإذا استطاعت واشنطن تحويل ألمانيا وفرنسا إلى أنقاض مشعة، فإنّه يمكنها تحويل الرمال العربية إلى زجاج.
كانت خطة الحقل النفطي متجذرة في التشاؤم من الحرب الباردة، عندما بدا أنَّ الشيوعية في موقع الهجوم في أماكن مثل برلين وكوريا، ولم يكن أحد متأكدًا ما إذا كان غرب أوروبا يستطيع التماسك. ولذلك، فإذا كان الوضع بهذا السوء، فما الأمل من حشد قوات كافية لمنع الجنود الروس من غزو الخليج العربي؟
الأمر اللافت أيضًا هو كيف استمر شبح، أو على الأرجح بُعبع، الغزو السوفياتي لحقول النفط. في أواخر السبعينات، أنشأت إدارة كارتر قوة الانتشار السريع لمنع أي تحركات من الاتحاد السوفيتي في الخليج العربي، وخاصة بعد غزو موسكو لأفغانستان. كيف كان من الممكن أن تصمد قوات المظليين والمشاة الخفيفة الأمريكية أمام طوابير الدبابات السوفيتية القوية هو أمر مثير للجدل، ولكن ثمة سؤال أهم يلوح في الأفق: هل كانت أمريكا على استعداد لاستخدام الأسلحة النووية في المملكة العربية السعودية وإيران في السبعينات والثمانينات، لمنع روسيا من السيطرة على النفط فقط؟
بولتيكو & ناشيونال إنترست – إيوان24