عربي 21 – عزام التـميمي
لا ينبغي أن نستغرب أو نستهجن استياء إخواننا السوريين مما يرونه محاولة لتجميل شخصيات مثل القائد السابق للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني.
فجرح السوريين غائر، ومازال ينزف بغزارة، بسبب ما آلت إليه الأوضاع في بلدهم بعد أن أجهضت التدخلات الإقليمية والدولية ثورتهم، وقتل مئات الآلاف منهم وشرد الملايين، بمساهمة مباشرة من حلفاء النظام الطائفي في دمشق، إيران ومن في فلكها من ميليشيات، وروسيا ومن تجندهم من مرتزقة. ومعروف أن قاسم سليماني كان يدير فصائل إيران داخل سوريا، ولذلك فهو بالنسبة للسوريين سفاح ومجرم، تقطر يداه من دماء أبنائهم وبناتهم.
ولكن في نفس الوقت هل كان الغرض من بودكاست الجزيرة تجميل صورة سليماني أم سرد حكايته بطريقة مبتكرة، هي أقرب إلى الدراما منها إلى العمل الوثائقي؟
لو كان الغرض هو تجميل صورة سليماني وتبرير ما كان يقوم به في سوريا، وما قام به في أماكن أخرى، تنفيذاً للأجندة الإيرانية وتوسيعاً لإطار هيمنة نظام الحكم في إيران، لما وسعني سوى أن أندد بهذه المحاولة وأن أقف نفس الموقف الذي شهدناه من كثير من المستنكرين لما ورد في بودكاست الجزيرة.
ولكنني لم أشعر وأنا أستمع إلى البودكاست أن الغرض منه كان تحسين صورة مجرم أو تجميلها، وإنما رأيته أقرب إلى عرض درامي على نسق ما يسمى “محامي الشيطان”. حيث يسرد المتحدث باسم سليماني ما يعتبره إنجازات، ولعلها من وجهة نظره ووجهة نظر المعجبين به تعتبر إنجازات، ولكن نسمع في المقابل صوتاً آخر في البودكاست يحاوره وينعت أعماله ومواقفه كما يراها ضحاياه، الذين يرون فيه سفاحاً مجرماً يستحق أن تتنزل عليه اللعنات لا أن يكال له المديح.
أظن أننا أمام عمل فني درامي، من أهم مميزاته أنه يعرض الأمور من وجهتي نظر متناقضتين.
كثيراً ما ينزع الواحد منا نحو إنكار وجهة النظر المخالفة لرأيه منهما في ظل الجدل المحتدم حول ما نشهده أو نعيشه من صراعات.
كانت أمي رحمها الله، مثلها مثل مئات الآلاف من الفلسطينيين، قد أخرجت عنوة من بيتها وهجرت من مدينتها في عام 1948، فهي بلا شك ضحية الصهاينة الغزاة المعتدين، الذي ارتكبوا المذابح لترهيب الفلسطينيين وحملهم على الخروج من وطنهم. لا يغير من هذه الحقيقة ولا يبدلها أن أسمع من الصهاينة مبرراتهم لما ارتكبوه بحق شعبنا.
وهي مبررات واهية، لا تكسب أعمالهم ذرة من شرعية، إلا أنها في نفس الوقت معلمة عما كان، ومازال، يجول في خاطرهم، وما الذي حفزهم، ومازال، على ارتكاب الجرائم بحق شعبنا.
وأذكر أنني ذات مرة في منتصف التسعينيات شاهدت وثائقياً في إحدى قنوات التلفزيون البريطانية حول الاستيطان في مدينة الخليل، واشتمل الوثائقي على مقابلة مع امرأة صهيونية من نشطاء المستوطنين الذين كانوا يتحرشون بالفلسطينيين ويؤذونهم لحملهم على ترك بيوتهم ومزارعهم. سألها المحاور: “بأي حق جئتم إلى هنا واحتللتم أراضي هؤلاء الناس وتمارسون هذا العدوان بحقهم؟” فأجابته: “لو لم يكن الرب هو الذي أمرنا بذلك لكنا مجرمين. فالرب منحنا هذه الأرض وخصنا بها دون غيرنا. فنحن إنما ننفذ إرادة الرب.”
إن الإقرار بوجود وجهتي نظر في أي تدافع لا يعني الانزلاق نحو النسبية من حيث عدم التمييز بين من يملك الحق ومن هو غارق في الباطل.
فلا يمكن لرأيين أو موقفين متعارضين تماماً أن يكون كلاهما على الحق، ولست أشك للحظة أن الحق، كل الحق، هو مع الشعب السوري في نضاله من أجل الحرية والكرامة، والانعتاق من أغلال نظام طائفي بشع، جثم على صدره رغماً عنه عقوداً طويلة من الزمن. فإن من حق الشعب السوري كما من حق كل شعوب العرب والمسلمين أن يختاروا حكامهم وأن يحاسبوهم، وأن يكونوا أحراراً في أوطانهم، أعزة كراماً.
لا أرى ذلك يتنافى مع الإدراك بأن من أجرموا بحق هذا الشعب، ومنهم قاسم سليماني وبوتن وحسن نصر الله، لديهم ما يبررون به ما قاموا به من أعمال وارتكبوه من جرائم، وهو المبرر الذي سوغ لهم ليس فقط ارتكاب تلك الجرائم بل وأيضاً السعي لإضفاء شرعية عليها، وتصويرها على أنها وطنية وبطولة. ومن هنا يأتي اعتبارهم ثورة الشعب السوري مجرد مؤامرة على “نظام ممانع مقاوم” تنفيذاً لخطة حيكت في عواصم قاصية.
أظن أن الفكرة من بودكاست الجزيرة هي تسليط الضوء على طريقة تفكير هؤلاء، وليس تبرير المواقف التي اتخذوها أو الجرائم التي ارتكبوها. وهي فكرة تتطلب من المتلقي رحابة صدر، وقدراً من الصبر، واستعداداً لسماع وجهة النظر المخالفة مهما كانت جانحة.
قد نختلف حول إخراج الفكرة، أما الفكرة ذاتها فأراها جديرة بالاهتمام، بل وبالاحترام.
لكم بهرني أن الله تعالى يحكي لنا بالتفصيل في كتابه العزيز عن إبليس وتبريره لرفض الانصياع لأمر الله بالسجود مع الملائكة لآدم، بل ونقل لنا على لسانه ما صدر عنه من احتقار لآدم، لذلك الكائن الذين خلقه الله من طين بينما كان خلقه هو من نار. وكذا ما رواه القرآن لنا في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز عن تبرير أئمة الكفر عبر التاريخ البشري لما كانوا عليه من طغيان وعصيان وفساد، بدءاً من قوم نوح وانتهاء بكفار قريش، ومن أبرزها ما رواه على لسان فرعون وهامان وقارون، تلك الشخصيات التي باتت نماذج خالدة عبر التاريخ للطغيان والخداع والإفساد، وكل مظاهر الظلم والفساد.