تحرص دوائر صنع القرار في الكيان الصهيوني على استغلال المنطلقات الواقعية للسياسات التي يتبعها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمتحرّرة من أي أثرٍ لقيودٍ أخلاقية أو مبدئية. فنظراً لأن بوتين اقتنع بوجوب ترسيخ شراكةٍ استراتيجية مع إسرائيل، فإنه لا يتردّد في الإقدام على خطواتٍ تحمل دلالاتٍ وأبعاداً موغلة في رمزيتها، لتوفير بيئةٍ تضمن تحقيق هذا الهدف. ولا تسهم خطواتُ بوتين فقط في تعزيز مكانة إسرائيل الدولية، بل إنها تضفي أيضاً مصداقيةً على المنطلقات الأيدولوجية لخطاب اليمين الحاكم في تل أبيب.
فلم يكن من سبيل المصادفة أنه، في الوقت الذي يفرض الاتحاد الأوروبي قيوداً على تسويق البضائع المنتجة في المستوطنات اليهودية المقامة في الضفة الغربية والجولان، سمحت روسيا، الأسبوع الماضي، بتنظيم معرض إسرائيلي لعرض هذه المنتوجات في أحد معارض موسكو. وقد وثقت كاميرات التلفزة الإسرائيلية مرتادي المعرض من الروس، وهم يتفحصون منتوجات المستوطنات من التمور التي أنتجت في مستوطنات “غور الأردن”، وخمور مستوطنات الجولان. وأقدمت روسيا على خطوةٍ ذات مضامين رمزية عميقة جداً، عندما سمحت، قبل شهرين، للوكالة اليهودية ووزارة الثقافة الإسرائيلية بتنظيم تظاهرة ثقافية في مسرح هارميتاز، أهم المسارح الروسية لعرض ما يعرف بـ”وثائق البحر الميت” التي يزعم الصهاينة أنها تقدّم أدلة تاريخية على أحقية اليهود في أرض فلسطين.
ولم تتوقف بوادر بوتين “الطيبة” تجاه إسرائيل عند هذا الحد، بل إنه أقدم على ما لم يحلم به نتنياهو عندما وافق على تسليم إسرائيل دبابةً غنمها الجيش السوري في حرب لبنان الأولى 1982، وأهداها السوريون للروس الذين ضموها لمقتنيات المعرض العسكري الروسي. وبعد أن ظلت روسيا ترفض عقوداً مجرد مناقشة الطلب الإسرائيلي بمنح الحقوق التقاعدية لعشرات الآلاف من اليهود الروس الذين هاجروا إلى إسرائيل، أواخر ثمانينيات القرن الماضي ومطلع تسعينياته، فقد شهد الأسبوع الماضي التوقيع على اتفاق ثنائي ينظم استعادة هؤلاء اليهود هذه الحقوق؛ على الرغم من الضائقة الاقتصادية التي تعانيها روسيا. وإن كان هذا لا يكفي، فقد شهد مارس/آذار الماضي ولادة أول لوبي يهودي داخل روسيا، على غرار اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة.
ولا حاجة للقول إنه في ظل نظام ديكتاتوري، مثل الذي يرأسه بوتين، لا يمكن الافتراض أن السماح بتدشين مثل هذا اللوبي جاء من منطلق احترام الحكم في موسكو حرية التنظيم لمواطنيه. المفارقة أن صحيفة “يسرائيل هيوم” كشفت في 24-3 أن من يقف على رأس هذا اللوبي هو ميخال لوبوبيكوف، رئيس فرع حزب الليكود داخل روسيا!. من هنا، لم يكن مفاجئاً أن يكون أول تحرك أقدم عليه اللوبي الجديد هو تنظيم فعالياتٍ سياسيةٍ لمطالبة الحكومة الروسية بالإعلان عن حركة حماس تنظيماً إرهابياً وقطع العلاقات معها.
وتدلّل مظاهر الحفاوة الصاخبة التي استقبل بها نتنياهو في موسكو، الأسبوع الماضي، على المسافة الطويلة التي يبدي بوتين استعداده لقطعها، من أجل تعزيز بيئة الشراكة مع تل أبيب. فقد أمضى بوتين ثلاث ساعات في مرافقة نتنياهو وزوجته سارة في زيارتهما المعرض “البلشفي” في موسكو، وهي خطوة لم يُقدم عليها في استقباله أياً من الزعماء الأجانب الذين زاروا موسكو. وعلى هامش الزيارة، تم التوقيع على سبع اتفاقاتٍ للتعاون في مجال التقنيات المتقدمة والزراعة وغيرها.
وبخلاف معظم قادة الدول الذين يلتقون نتنياهو، فقد كشفت صحيفة معاريف في 11-6 أن بوتين لا يحرص على طرح القضية الفلسطينية في لقاءاته مع نتنياهو، حيث لا تخرج إشارات بوتين لهذه القضية في المؤتمرات الصحافية المشتركة مع نتنياهو عن دائرة الضريبة الكلامية التي يدفعها زعيم الكرملين.
والواضح أن الخطوات ذات الدلالات الرمزية للغزل الروسي لا تطمس العوائد الجمّة التي تجنيها تل أبيب من الشراكة الاستراتيجية مع موسكو، فقد ضمن الوجود العسكري الروسي في سورية لإسرائيل مهاجمة أهداف تابعة لحزب الله هناك من دون الخوف من ردة فعل للحزب على هذه الهجمات. صحيح أن أسباباً أخرى تدعو الحزب إلى عدم الرد على الضربات التي توجهها له إسرائيل، لكن في تل أبيب باتوا يدركون أن الحزب غير معنيٍّ بشكل خاص بإحراج روسيا من خلال الاندفاع إلى مواجهةٍ مع إسرائيل، تؤثر على ظروف عمل الروس لصالح نظام بشار الأسد.
وقد ارتفع سقف التوقعات الإسرائيلية من روسيا، إلى درجة أن نتنياهو ناقش مع بوتين خارطة المصالح الإسرائيلية التي يتوجب تحقيقها في أي حلٍّ للنزاع القائم في سورية. وعلى الصعيد الاقتصادي، أقرّ نتنياهو بأنه طلب من بوتين الاستعانة بالخبرات الروسية في تطوير حقول الغاز التي سيطرت عليها إسرائيل في حوض البحر الأبيض المتوسط.
يمثّل ما تقدّم أخباراً سيئة لإيران وحزب الله، حيث وفر التدخل العسكري الروسي في سورية بيئة لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين موسكو وتل أبيب تحديداً. من هنا، فإن للتحذيرات التي باتت تعبر عنها جهاتٌ نافذة في طهران من العلاقة الروسية الإسرائيلية ما يبرّرها. لكن الحاجة لمواصلة الدعم الروسي لنظام الأسد ستحول دون اتخاذ أي إجراءٍ احتجاجي إيراني ضد تعاظم مظاهر الشراكة بين تل أبيب وموسكو.
العربي الجديد – صالح النعامي