عقب انقلاب حافظ الأسد على رفاقه البعثيين جماعة23 شباط في أواسط تشرين الثاني 1970، شرع حافظ الأسد بزيارات متتالية إلى المحافظات السورية لكسب ود الجماهير الحاشدة في أسواق المدن آنذاك وجاء دور محافظة إدلب.
في إدلب المدينة الريفية كغيرها من الريف والمدن السورية لم يكن هناك مشاريع سياسية حقيقية إلا قلة نادرة، فكان ثلاثة أحزاب حزب الناصريين ويمثله شارع الصليبة الذي يشتهر بمهنة تصليح الأحذية، ذلك الشارع المسقوف أغلبه بصفيح التنك تلاحظ أن أغلب حرفيي تصليح الأحذية يعلقون خلفهم صورة لجمال عبد الناصر وبفمهم مسامير ناعمة لدق النعل، وعلى يمينهم مسجلة ماركة توشيبا أم الكاسيت دائما ما تصدح بأغنية للمرحوم فريد الأطرش “يا مصر يا أم الدنيا بحب عشانها الدنيا” ويتحمس الكندرجية يرددون الأغنية مع فريد ومع إطلاق الألف بعد إشباع الياء الروي في الأغنية تقع المسامير على الأرض وتضيع بين أكياس النعال فيلعنون البعث ويحلفون بإرسال أبنائهم لتعليمهم عند الرفاق شدادي المكانس فعلى الأقل لا تفلت المسامير من أفواههم بالانفعال مع الأغنية!.
أما الحزب الثاني فكانوا البعثية الاشتراكية وقد تجمعوا من كل قرية رفض مختارها التنازل عن الختم الدائري لصالح رعيان البطال فانتسبوا للبعث وكانت مطالبهم تتمثل بتغيير المختار.
وبين هذين الحزبين كان هناك فئتين غامضتين قليلًا
فئة أزقة الحارة الشمالية التي أشرنا لها بعملهم بشد المكانس فكان هؤلاء مقتنعون أن الحركة التصحيحية لم تقم إلا لتصحيح المسار وضمّ الوطن العربي من الماء إلى الماء بقيادة الأسمر جمال عبد الناصر، وأيضًا اشتهروا بتعلق صورة لجمال عبد الناصر خلفهم ووضعوا المسجلة السوني أم كاسيت على يسارهم لكي لا تقع بفعل شد حبال المكنسة القش، وأغنيتهم المفضلة أوبريت الربيع أيضا لفريد الأطرش.
أما الفئة الثانية الغامضة فقد جاءت من زقاق البوس، هذا الزقاق الذي اشتهر بعشاقه اللطفاء الظرفاء وكان مطربهم المفضل معروف بلقب “خورشيد” وهو مطرب شعبي أصابته لوثة جنون وتشرد، فقبل كل عرس يأخذونه إلى حمام السوق ويكسونه بأبهى الحلل ليستمتعوا بصوت قيل أنه يضاهي فريد وأم كلثوم وما زال أهل إدلب يحتفظون له بكاسيتات.
والمهم أن هذه الفئات تجمعت في ساحة هنانو يوم زار حافظ الأسد المدينة لأول مرة، وكان من الملفت للنظر أنه جاء بعشرين شيخ (رجل دين) معه، بعتادهم الكامل من الجلباب حتى العمامة والمسابح الكهرمان العسلية الأنيقة.
وصل وفد قريتنا المحب لجمال عبد الناصر الذي أرسل لهم أكياسًا مليئة بالطحين كتب عليها مساعدات إنسانية من أمريكا، وبلباسهم القروي الكلابية ‘الشيت’ وتحتها سروال فصلوه من تلك الأكياس عقدوا دبكة عفوية في الساحة ريث بدء الكلمة التاريخية.
اعتلى الأسد سطح المركز الثقافي القديم أمام ساحة هنانو بجانب البريد وبدأ خطابه؛ أيها الرفاق أيها الكادحون يا أبناء إبراهيم هنانو وأحفاد خالد بن الوليد، ارتفع منسوب الأدرينالين عند الناصريين بشقيهم وكلمة من هنا وكلمة من هناك ماجت وضجت الساحة حتى انتخى أولهم ورمى الأسد بشحاطة قد صلحها رفيق ناصري قبل يومين.
لم يصبه، فعلت أصوات التكبيرات من خلف الدكاكين، وما رميت إذ رميت… وساد الهرج والمرج وبدأ رشق الأسد بالحجارة والبيض والبندورة والكلاش الجاروخ المشهور باسم الديري في إدلب.
اغتنم جماعة المطرب خورشيد واحتفوا بالرفيقات الحزبيات خير احتفاء
وتحمس وفد قريتنا فشكلوا كلابياتهم، حتى بانت السراويل ولأجل الصدفة أن الكتابة “مساعدات من الشعب الأمريكي” كانت كلها قد جاءت مفصلة محبوكة على قفا كل واحد منهم لكنهم لم يعرفوا أين يوجهون ضرباتهم فاتحدوا مع جماعة زقاق البوس خورشيد، ريثما تجيء سيارة الشحن التي أرسلوها لتبحث عن بائع مشبك فتعيدهم كما أقلتهم من شرق المعرة إلى إدلب.
أنكر إعلام حافظ الأسد ما حصل في إدلب وقالوا أنهم عبارة عن مدسوسين من دول الرأسمالية والإمبريالية التي تتربص بالقدس لاحتلالها ويبدو أنهم لم يحتلوها في منطلقات حزب البعث العربي الاشتراكي منذ 1948.
تكررت هذه الحوادث في الإعلام الرسمي لبلادنا فخرج بشار ابن حافظ الأسد في خطابه الأول بعد قيام الثورة وعقبت عليه بثينة شعبان وسوزان نجم الدين أن الذين خرجوا مندسين أيضًا من دول الإمبريالية والرجعية والرأسمالية العالمية أيضًا لاحتلال القدس لأن منطلقات حزب البعث لم تعترف بعد بإسرائيل احتلت فلسطين منذ ذلك التاريخ.
ولأن الأحذية تحب الساسة من إدلب إلى إعزاز
خرج اليوم سالم مسلط بعدما طرده أهالي مدينة إعزاز بالكلاش الديري ذاته ليقول أنهم مندسين في صفوف الثورة، فمن كلاش حافظ الأسد إلى الرفيق سالم مسلط حوّل….