إياد ابو شقرا
ثمة حقائق هذه الأيام لا توحي، مع الأسف، بأننا كعالم عربي، لديه رؤية واضحة لوضعه الإقليمي. فمعظم دولنا تبدو عاجزة عن بَلورة تصوّر حصيف في تعاملها مع المستجدّات المحيطة بها، التي توشك أن تهدد بقاءها أو – على الأقل – وحدتها الوطنية.
على سبيل المثال لا الحصر، شهد اليمن خلال العامين الأخيرين تحوّلات خطيرة. وأدّت سيطرة الحوثيين الملتزمين بـ«المشروع الإيراني» الإقليمي على العاصمة صنعاء إلى انتقال القيادة «الشرعية»، ثم عدد من السفارات العربية، من صنعاء «المحتلة» إلى عدن، وجاءت الخطوة الأخيرة بالتزامن مع المناورات البحرية الإيرانية الكبيرة في الخليج العربي وخليج عُمان وبحر العرب.
وهناك أيضا كلام عن مَساعٍ تُبذَل على المستوى العربي لتبريد الأجواء مع تركيا، بينما تصعّد جهات عربية نبرتها ضد دور تركي مزعوم في دعم الجماعات المتطرّفة في ليبيا. وعربدة دموية يمارسها تنظيم «داعش» في شرق سوريا وغرب العراق، وسط انهيار فعلي لمقوّمات الدولة في البلدين المتجاورين. وانسداد سياسي كامل ومخاوف أمنية في لبنان الذي يعيش منذ تسعة أشهر من دون رئيس جمهورية منتخب. وتنافس إسرائيلي – إيراني ساخن على تفويض واشنطن الإقليمي. وكل هذا.. وسط تأجيج مذهبي وطائفي على امتداد المنطقة العربية يأخذ أحيانا صورا عبثية في تفلّتها من أي منطق أو رادع أو وازع أخلاقي أو إنساني.
إزاء كل هذه الحقائق المؤلمة لا وجود لمقاربة عربية استراتيجية واحدة رغم المخاطر الهائلة التي يمكن أن تنجم عن ذلك، ولا سيما أن لدى كل من إسرائيل وإيران وتركيا «مشروعها» الخاص. باختصار، حتى الآن لا وجود لـ«مشروع عربي».
إسرائيل في عهد بنيامين نتنياهو مشروعها معروف. ونتنياهو و«صقور» الليكود وأحزاب اليمين المتطرّف الأخرى ما كانوا أصلا مؤمنين بـ«مبدأ الأرض مقابل السلام»، حتى عندما كان يواجههم في الجانب الفلسطيني المقابل قوى علمانية مقتنعة بالتفاوض، وموافقة على حل «الدولتين». أما اليوم، فإن اليمين الإسرائيلي المتطرّف يواجه قوى فلسطينية تمثل «الإسلام السياسي» تتحفّظ عن «حل الدولتين»، وبعضها مرتبط ارتباطا مباشرا بطهران. ثم إن أجواء واشنطن في عهد باراك أوباما أجواء تطبيع وتحالف مع إيران، وهو ما دفع نتنياهو وحلفاءه عشية الانتخابات الإسرائيلية إلى تصعيد ابتزازي فتح معركة غير مسبوقة داخل الساحة السياسية الأميركية.
إزاء هذا التنافس الإسرائيلي الإيراني على الحظوة الأميركية في الشرق الأوسط، ليس لدى العرب أي مجال للربح، لأن انتصار أوباما سيسجل لصالح طهران، وانتصار قيادة الكونغرس الجمهورية سيكون لصالح غلاة «الليكود» وحلفائهم.
البعد الخطير الثاني يتعلق بمشروع إيران الذي سقطت عنه آخر أوراق التوت. فالمصاعب التي تعترض قيام دولة عراقية «واحدة موحّدة» في حقبة ما بعد صدّام حسين انكشفت حلقاتها، حلقة تلو أخرى، وبالأخصّ إبان مرحلة حكم نوري المالكي المذهبي الصريح. واليوم، تنعكس هيمنة طهران ليس فقط في التطهير المذهبي الممنهج في مناطق عدة من العراق، بل يؤكدها الدور النشط للميليشيات الطائفية العراقية المأمورة إيرانيًا في سوريا، مقابل إحجامها عن التصدّي لـ«داعش» في الغرب السنّي. والمفارقة هنا أن إخفاق الجيش العراقي – الذي بنته طهران وواشنطن – في التصدي لـ«داعش» وتركه المهمة للعشائر السنّية في محافظات غرب العراق.. يأتي بينما «تسوّق» القيادة الإيرانية «خدماتها» أمام الغرب في مجال محاربة الإرهاب!
وواقع الحال، أن الابتزاز الإيراني ممثلا بحزب الله ما زال يمنع انتخاب رئيس للبنان، حيث الهيمنة الميدانية الفعلية للحزب، والسبب أن طهران تريد اليوم «شرعنة» هيمنتها على البلد دستوريًا عبر انتخاب «رئيس دمية» يحقق الشقّ الموكل للبنان من مشروعها الإقليمي. والشيء نفسه تقريبا ينطبق على اليمن، حيث يتمدّد الحوثيون جنوبًا ويهدّدون محافظات مأرب وشبوة وأبين، مع ملاحظة أن انتقال «السلطة الشرعية» ممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي إلى عدن تشكل، ولو مؤقتا، أول نكسة للتمدد الحوثي منذ انكشاف الدور الخفي للرئيس السابق علي عبد الله صالح، ومن ثم احتلال الحوثيين صنعاء.
في الحالتين اللبنانية واليمنية، حيث تسوّق إيران تدخلها السافر تارة بالتصدي لـ«التكفيريين»، وطورا بقتال «القاعدة».. لا يبدو لبنان قادرا على حماية استقلاله في ظل بقائه تحت سطوة قوة مذهبية مسلحة أقوى من الدولة، ولا اليمن قادرا على حماية وحدته من دون إعادة «المارد الحوثي» إلى القمقم قبل تسليمه باب المندب لإيران.
ونصل إلى تركيا..
أزعم أن رد الفعل التركي من تغيير يونيو (حزيران) في مصر كان نزقا وقصير النظر، ولا يليق بقوة إقليمية كبرى كتركيا. غير أن التوازن الاستراتيجي يفرض وسيفرض تركيا أكثر فأكثر كقوة موازية وموازنة لإيران. ومهما كانت تحفظات البعض عن تبنّي «أنقرة إردوغان» لقوى الإسلام السياسي السنّي في المشرق العربي، فإن الخيارات تضيق يوما بعد يوم أمام الدول العربية المعنية مباشرة بالتهديد الإيراني.
وهنا، لا بد من الإقرار بأن المنطقة بحاجة إلى دور فعّال تلعبه مصر بحكم ثقلها السكاني والاستراتيجي والثقافي.. يحقق الحد الأدنى من التوازن، غير أن أولويات مصر الضاغطة في هذه المرحلة أولويات محلية أكثر منها إقليمية.
وبالتالي، بصرف النظر عن تسابق منتقدي أنقرة على اتهامها بدعم «داعش» وغيره من التنظيمات المتطرّفة، من العراق إلى ليبيا، غدا من الواجب التوصل إلى تفاهم بالعمق مع أنقرة من دون مواربة، ولا سيما أن لكل من تركيا وعدة دول عربية مشرقية اليوم مصالح مشتركة أكبر بكثير من الحساسيات العابرة.
بكلام أوضح، فإن عودة تركيا للعب دور فعّال ينقذ ما تبقى من سوريا والعراق، حيث تبدو خرائط التقسيم شبه جاهزة، أمر أكثر من حيوي.
المطلوب اليوم مقاربة عربية عاقلة وواقعية تنتهي بـ«مشروع» حقيقي.. بعيد عن الرهانات الخاطئة، ومن دون أوهام.