كشف معهد واشنطن أن شركات الطاقة الروسية تتطلع إلى تجديد استثماراتها في قطاع الطاقة السوري وتوسيعها. لكنها لا تسعى إلى التنقيب عن احتياطيات النفط السورية المحدودة واستخراجها، فهي تختزن كميات هائلة، بل تحاول الاضطلاع بدور فعال في إعادة إعمار البنية التحتية للنفط والغاز في سوريا وتشغيلها.
وتأمل شركات الطاقة الروسية التحكم بجزء كبير من خطوط الأنابيب ومنشآت التسييل والمصافي والموانئ، وبالتالي الاستفادة من موقع سوريا كنقطة عبور لنفط وغاز المنطقة المتجهين نحو أوروبا. وبذلك، لن تنجح روسيا في توسيع نطاق هيمنتها فحسب شرق البحر المتوسط، وهو حلم يراودها منذ حروب القوقاز في القرن التاسع عشر، بل ستتمكن من تشديد قبضتها على إمدادات الغاز الأوروبية.
المصالح الإقليمية
وأشار الباحث الروسي “نيكيتا سوغولوف” إلى أنه من الناحية الإنتاجية، لم يولِ قطاع النفط الروسي هذا القدر من الأهمية لسوريا. فاحتياطيات النفط السورية تقدّر بنحو 2.5 مليار برميل، أي 0.2% فقط من الحصة العالمية، في حين لا يكفي مخزونها من الغاز البالغ 8.95 مليارات متر مكعب لتلبية حاجاتها المحلية حتى. لكن عام 2010، دخلت “تاتنفت” السوق السوري من خلال مشروع تطوير في حقل قيشام الجنوبي قرب دير الزور، الذي يُعتقد أنه يختزن 4.9 ملايين طن من النفط. وفي عام 2013، مع دخول الحرب مرحلتها الأكثر دموية، فازت شركة “سيوز نفط غاز” الروسية بمناقصة حصرية للتنقيب عن احتياطيات الغاز البحرية السورية وتطويرها في منطقة الامتياز 12، ما زاد أصول الشركة المتواضعة قرب الحدود السورية مع تركيا. ومنذ ذلك الحين، علّقت الشركتان عملياتهما بسبب المخاوف الأمنية. لكن شركات الطاقة الروسية عازمة على العودة.
وفي عام 2015، أعلنت المديرة التنفيذية لـ “اتحاد منتجي النفط والغاز” غيسا غوتشل أنه “عندما يتوقف القتال ويستقر الوضع في سوريا، ستكون الشركات الروسية التي أرغمت على تجميد عملياتها مستعدة لاستئناف أعمالها بسرعة وتنفيذ العقود المبرمة قبل الحرب المقدرة بقيمة 1.6 مليار دولار على الأقل”.
وبحلول عام 2016، تمكّنت حملة جوية روسية عشوائية وتدفق مطرد للأسلحة والمساعدات من قلب موازين الحرب إلى حدّ كبير لصالح نظام الأسد والحدّ من الضبابية السياسية السائدة، ما يؤكد أن هدف غوتشل قد يتحقق قريباً.
وفي وقت أصبح فيه نظام الأسد في موقع الهجوم، بدأ نظام الأسد يسمح للشركات الروسية بالنفاذ إلى قطاع الطاقة السوري في سابقة من نوعها. وفي شباط من ذلك العام، سافر وفد سوري إلى موسكو للاجتماع بوزير الطاقة وأقطاب قطاع النفط حيث طلبوا من شركات النفط والغاز الروسية مساعدتهم على ترميم قطاع الطاقة المدمر في سوريا. في هذا السياق، قال وزير خارجية النظام وليد المعلم إن بلاده مستعدة لتقديم “كافة المحفزات الممكنة” إلى الشركات التي تشارك في إعادة الإعمار.
قيمة سوريا بالنسبة إلى روسيا
قبل اندلاع الثورة، واجهت شركات النفط والغاز الروسية منافسة شرسة من إيران التي خططت لبناء خطوط أنابيب تمر في إيران-العراق-سوريا من قطر، التي سعت إلى ربط حقولها الغازية بتركيا من خلال أنابيب تمر في سوريا، وعبر مصر، التي أملت توسيع “خط الغاز العربي” من الأردن إلى تركيا. واحتاج قطاع الطاقة الروسي إلى استراتيجية سورية من شأنها، بحسب جيف مانكيو من “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية”، أن “تحرص على عدم إقدام أطراف أخرى على زيادة إمداداتها بطريقة تنافس الروس”.
وكانت شركات النفط الروسية، مدركةً قيمة سوريا كمركز لنقل النفط والغاز أكثر منه دولة مزودة، سعت إلى إيجاد وسيلة للمشاركة في مشاريع الطاقة السورية وليس التنافس معها. وفي ظل الدعوة التي وجهتها سوريا عام 2016، لاحت هذه الفرصة أمام الروس. وفي حال قبلت شركات الطاقة الروسية طلب سوريا، ستكتسب سيطرة كبيرة على قطاع الطاقة السوري، إذ إنها ستطالب بالقسم الأكبر من الحصص في الاستثمارات المغامرة التي تمدّها بالقوى البشرية والإمدادات المطلوبة. وبهذه الطريقة، سيضمن قطاع النفط والغاز الروسي أن أي بلد يدرس احتمال شحن منتجاته النفطية عبر مرافئ وخطوط أنابيب سوريا سيرغم على التماس رضا روسيا، إن لم يضطر إلى التفاوض معها مباشرة.
ونتيجةً لذلك، ستقلل شركات النفط الروسية المنافسة من إيران أو العراق أو قطر أو السعودية. كما أن السيطرة على مشاريع مماثلة تعني أن روسيا ستتمتع أقله جزئيًا بالقدرة على التحكم بنحو 50.5 مليار متر مكعب/سنويًا من صادرات الغاز الطبيعي، أي ما يعادل 5.5 مرات أكثر من احتياطيات سوريا كاملة ونحو 27 في المائة من صادرات الغاز الطبيعي المسال الروسية السنوية.
فضلًا عن ذلك، يمكن أن يساعد الاستثمار في بنية الطاقة التحتية في سوريا على ضمان مصالح روسيا النفطية والغازية في دولة العراق المجاورة حيث وقعت شركة “سترويترانسغاز” اتفاقًا مع الحكومة العراقية لإعادة بناء خط أنابيب كركوك-بانياس الذي سيربط حقول “لوك أوجل” قرب البصرة وحقول “غاز بروم” قرب كركوك بميناء بانياس السوري الصديق، على بعد 35 كيلومترًا شمال منشأة روسيا البحرية في طرطوس. وكان قد تمّ تعليق المشروع عام 2011 بسبب تنامي الاضطرابات في المنطقة، ولكن لم تبرز مؤشرات كثيرة على التخلي عنه بالكامل. وفي حال استؤنف، بإمكان روسيا أن تحظى بشبه احتكار لمصالحها في المنطقة، إذ يمكن للشركات الروسية إرسال نفطها وغازها عبر خطوط أنابيب بنتها روسيا ليتّم شحنها من ميناء تحميه البحرية الروسية.
المخاطر والمكاسب
ويمثل اقتصاد روسيا المتعثر التحدي الأكبر أمام تحقيقها هذا الهدف. فانخفاض أسعار النفط والاحتياطي النقدي الذي يُستنزف بسرعة يحولان دون سعي روسيا إلى إعادة إعمار مكلفة. كما أن مثل هذا التعهد يتطلب قدراً من الاستقرار السياسي الذي لم يتمّ بلوغه بعد. غير أن تحسين الاقتصاد المحلي والاستقرار السوري ليسا وهمًا، حيث يقدّر تحليل أجراه “البنك الدولي” أنه بحلول عام 2019، سيكون الاقتصاد الروسي قد تعافى بالكامل من الركود الذي دام سنوات طويلة في وقت يشعر فيه تجار السلع الأساسية، بتشجيع من تدابير التقشف المتوقّع من “أوبك” اتخاذها لمواجهة الإنتاج المفرط، بتفاؤل حذر حيال ارتفاع أسعار النفط.
ويتزامن كل هذا مع انتخابات روسية يتوقع بوتين فوزه الأكيد فيها، ما يضمن إمكانية مواصلة نظامه السعي وراء تطبيق سياسة خارجية طموحة على نحو متزايد. في هذه الأثناء، وفي حين أن عمليات وقف إطلاق النار ومناطق الحد من التصعيد في سوريا هشة، توفّر المسار الأوضح للسلام منذ كانون الأول 2016. وعليه، ومتى يحين الوقت، ستستفيد شركات النفط والغاز الروسية من التزام بلادها بنظام الأسد، ما يضمن بقاء روسيا لاعبًا مهيمنًا في المنطقة لسنوات عديدة.
أورينت نت _ معهد واشنطن