بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية القرن العشرين، حدثت حرب واحدة كل 14 شهرا، وكانت الدول الكبرى تلعب دورا خلف الستار وظهر ما يسمى بـ’الحرب بالوكالة’.
في خطابه الأخير كرئيس للولايات المتحدة الأميركية أمام الجمعية العام للأمم المتحدة، بدا باراك أوباما واثقا وهو يستعرض “الإنجازات” التي حدثت بفضل النظام العالمي الجديد الذي نعيش فيه “بسلام” منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
تحدث أوباما عن استمرار النمو الاقتصادي وانخفاض معدلات الفقر بين سكان العالم بمعدلات استثنائية، وعن أهمية المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد اللذين باتا “أكثر فعالية”، وهو ما “انعكس إيجابيا” على حياة الشعوب؛ كما لم يفته الترويج لدور الأمم المتحدة في تقديم الخدمات والعلاج والمساعدات في بقاع مختلفة من العالم الفقير.
على صعيد الأمن والسلام العالمي، أشاد أوباما بالنظام العالمي الجديد و”عقلانيته”. خصوصا وأن القوى الكبرى لم تعد تخوض حروبا عالمية مدمرة كما كانت تفعل طيلة القرون الماضية. المفارقة هي أن حديث الرئيس الأميركي جاء في نفس اليوم الذي شهد قيام طائرات روسية بقصف قافلة للأمم المتحدة، كانت تحمل المساعدات الإنسانية إلى مدينة حلب المحاصرة.
يوضح هذا الحادث المشين مدى تأزم وضبابية العلاقات داخل النظام الدولي الجديد الذي يكيل له باراك أوباما المديح من جهة، ومدى انفصال نعيم الأقوال عن جحيم الأفعال من جهة أخرى.
قصفت روسيا الأمم المتحدة في سوريا من دون أن تفكر في العواقب المترتبة على مثل ذلك العمل الإجرامي، وذلك لأنه لا يوجد أيّ عواقب بالفعل. في وقت ما مضى، قبل أن يصل النظام الدولي إلى أزهى عهوده بحسب أوباما، لم تكن روسيا لتتجرّأ على فعل ذلك، أو كانت ستواجه عواقب قد لا تكون شديدة، ولكنها غير محمودة وقاسية بكل تأكيد.
ولكن الحروب بين القوى الكبرى انتهت لحسن الحظ كما يقول أوباما الذي كان قد أكد، منذ التدخل العسكري الروسي في سوريا، على أن واشنطن لن تخوض حربا مع روسيا في سوريا، أو من أجلها.
خلال القرنين الماضيين، تقلصت أعداد الحروب بين الدول الكبرى باستمرار من حيث العدد والوتيرة والمدة الزمنية حتى انتهت تقريبا مع نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام نظام عالمي جديد؛ كانت أعداد الحروب تتقلص ولكن خسائرها البشرية والاقتصادية والعمرانية كانت تتصاعد، حتى وصلت إلى حدود مرعبة في الحرب العالمية الثانية، جعلت معها اندلاع حروب عالمية جديدة أمرا غير ممكن. وقد ساعد ذلك على وضع حدّ للحروب بين القوى الكبرى، ووفر فرصة للرئيس الأميركي لكي ينسب “الإنجاز” إلى عقلانية النظام الدولي الجديد.
في المقابل، تزايدت أعداد الحروب حول العالم وأصبحت تندلع بين دول أصغر، أو كحروب أهلية داخل الدولة الواحدة. بحسب المؤرخ وعالم السياسة تشارلز تيللي، فمن القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي توصف بأنها الأعنف في التاريخ، اندلعت حرب دولية واحدة في كل عامين. أما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية القرن العشرين، فحدثت حرب واحدة كل 14 شهرا، وظهر ما يسمى بـ“الحرب بالوكالة”.
هكذا يبدو أن الدول الكبرى قامت بـ“تصدير الحروب” للدول الأصغر، بحسب تعبير تشارلز تيللي، وذلك تجنبا لحدوث الدمار على أراضيها. لقد أصبح شبح الدمار الداخلي هاجسا لجميع القوى الكبرى بعد نهاية الحرب، وصار الاستقرار الأمني ركيزة أساسية لعمل عوالم السياسة والصناعة والمال. والنتيجة بحسب تيللي هي أننا نعيش في عالم شديد العدوانية، تتمتع فيه القوى الكبرى بنوع من “الإعفاء الجزئي” من الحرب على أراضيها وهو ما يجعلها “أقل حساسية” تجاه الحروب في دول أخرى.
تبدو تلك الحساسية مفقودة تماما في ما يخص الحالة السورية؛ فطالما بقيت أهوال الحرب، وهي غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، محصورة في الجزء الجنوبي من العالم، فإن العالم ككل بخير، ولا ضير بعد ذلك من التباهي بالإنجازات التاريخية على صعيد الأمن والعدالة والتعليم والصحة. أما عندما تفيض تلك الأهوال نحو الدول الكبرى، كما جرى في أزمة اللاجئين وفي تفجيرات تنظيم داعش، فسيتم اتخاذ إجراءات استثنائية تتراوح بين إعلان حالة الطوارئ وصولا إلى إعلان الحرب. الحقيقة أن مطامح الدول الكبرى باتت تتعدّى الإعفاء من الحرب على أراضيها لتشمل أيضا الإعفاء من آثار تلك الحرب.
لم يفت باراك أوباما الحديث عن سوريا في خطابه الأممي الأخير، ليؤكد باطمئنان وبأعصاب باردة، أن الطريق الدبلوماسي هو الطريق الوحيد لحل الأزمة السورية مستبعدا أي حل عسكري. لم يجد رئيس البيت الأبيض أي حرج وهو يقول ذلك عن بلد قتل من أهله نصف مليون إنسان، وتحاصر ميليشيات مسلحة مليونين منهم، فيما تتكفل الطائرات الحربية بقصف المشافي والمخابز والأسواق؛ الحساسية تجاه أهوال الحرب في هذه المنطقة من العالم ليست “ضعيفة” بل معدومة تماما.
العرب سلام السعدي