يتواصل صراع المصالح والإرادات على الأراضي السورية بين القوى الإقليمية والدولية عبر وكلائها المحليين بغية الاستحواذ على الحدود والثروات الباطنية والممرات الاستراتيجية التي يتم انتزاعها من تنظيم الدولة (داعش) في ضوء حالة التقهقر التي يعيشها التنظيم في كل من سوريا والعراق خلال الشهور الأخيرة.
وعلى الأرض، تواصل “قوات سورية الديمقراطية” تقدمها في مدينة الرقة مسيطرة على المزيد من الأحياء، لكن وتيرة التقدم تباطأت في الأيام الاخيرة بسبب مقاومة عناصر التنظيم في الأحياء الشرقية من المدينة، وإصابة بعض العناصر الأجنبية من جنسيات غربية خلال الاشتباكات عند أسوار المدينة القديمة خاصة عند باب بغداد غرب حي الصناعة، حيث تحاول القوات المهاجمة التوغل نحو مركز مدينة الرقة. وتترافق الاشتباكات مع غارات جوية لطيران التحالف كثيراً ما تسفر عن سقوط ضحايا بين المدنيين.
أما الساحة الأخرى للقتال في الرقة فهي في ريفها الجنوبي الغربي حيث تتحرك قوات النظام والميليشيات التي تقاتل معها منتزعة المزيد من القرى والمواقع من يد تنظيم الدولة الذي يقوم بانسحابات بالجملة أمام هذه القوات. وقد سيطرت قوات النظام في الأيام الاخيرة على قرى ومناطق” بير جاف، بير موسى الهندي، أبو حمّاد، أبو خميس، رجم الحرّات” جنوب غرب الرقة. كما سيطرت على 14 قرية وبئر وموقع على طريق سلمية – أثريا – الرصافة – الرقة، وتمكنت من الوصول الاقتراب من الرصافة والمفرق المؤدي منها إلى مدينة الرقة، بالإضافة لقرية جعيدين بريف الطبقة الجنوبي، كما اقتربت من مطار الطبقة العسكري وباتت على مسافة نحو 3.5 كلم جنوب المطار.
وكانت قوات النظام دخلت الحدود الإدارية لمحافظة الرقة من الجهة الغربية وتمكنت بعدها من السيطرة على عدد من القرى والبلدات بعد انسحاب تنظيم “داعش” دون قتال أغلب الأحيان، حيث تستغل هذه القوات انهماك التنظيم في القتال داخل الرقة في ظل الضربات الجوية لطائرات التحالف والمقاتلات الروسية لكي تسد الفراغ الناتج عن أية انسحابات يقوم بها التنظيم في الريفين الغربي والجنوبي من الرقة.
وبحسب المرصد السوري لحقوق الانسان، فقد سيطرت قوات النظام بدعم من قوات النخبة التابعة لحزب الله اللبناني على نحو 1200 كلم مربع من مساحة محافظة الرقة منذ السادس من الشهر الجاري. وكانت قوات النظام تقدمت خلال الأيام الماضية جنوب مدينة مسكنة لتسيطر على أجزاء من طريق أثريا- الرصافة وعدة قرى جنوب مسكنة، ما يجعلها قريبة من الرصافة نفسها، واذا تمكنت منها، فهذا يعني انها باتت على تخوم مدينة الطبقة، وسط توقعات بأن تكون المدينة التي استحوذت عليها “قوات سوريا الديمقراطية” مؤخراً هدفاً لقوات النظام في مرحلة لاحقة.
مكاسب
ومع هذه التطورات يبدو النظام السوري المدعوم من روسيا وايران من بين أكثر الأطراف حظاً كي يرث “تركة داعش” في سوريا. وقد شهدت الأسابيع والشهور الأخيرة بالفعل اندفاعة كبيرة لقوات النظام بمؤازرة فعالة من الميليشيات التي تدعمها إيران باتجاه الشرق خاصة عبر الأرياف الشرقية لكل من حلب وحمص ودمشق.
وبدأ النظام السوري مدعوماً بميليشيا حزب الله وميليشيات عراقية وإيرانية، هجوماً منذ أكثر من شهرين على مواقع “داعش” في شرق حلب والبادية السورية، بهدف الاقتراب من الرقة والوصول إلى قواته المحاصرة في دير الزور، وسيطر خلال ذلك على مساحات واسعة من ريف حلب الشرقي مثل دير حافر ومسكنة ومطار الجراح، ليصل الى الحدود الغربية لمحافظة الرقة.
وفي ريف حمص الشرقي، سيطرت قوات النظام مدعومة بالميليشيات على منطقة آرك وعلى تلال مطلة عليها عقب اشتباكات مع مقاتلي “داعش”، تخللها غارات جوية مكثفة من طائرات النظام والمقاتلات الروسية. وتحقق قوات النظام في الآونة الاخيرة تقدما مضطرداً في المنطقة حيث استعادت معظم حقول النفط والغاز والفوسفات وهي تسعى للوصول الى مدينة السخنة الاستراتيجية شرق مدينة حمص. كما أعلنت قوات النظام سيطرتها على محمية التليلة جنوب قرية آرك بـ 13 كم، بريف تدمر الشرقي بعد معارك مع تنظيم “داعش”.
أتت تحركات قوات النظام ثمارها عسكرياً على أكثر من محور خاصة عبر الأرياف الشرقية لكل من حلب وحمص ودمشق. وهو ما جعل النظام من بين أكثر الأطراف حظاً كي يرث “تركة داعش” في سوريا.
عين على دير الزور
وفي تحركه باتجاه الشرق، يضع النظام عينه على مدينة دير الزور الحدودية مع العراق والغنية بالثروات النفطية والغازية. وتعتبر دير الزور آخر ما سيكون بحوزة تنظيم “داعش” إذا خسر الرقة، كما هو متوقع، إضافة إلى ما يسيطر عليه في الريف الشرقي لمحافظتي حمص وحماة، وهي مناطقة بدأ- على كل حال- ينحسر نفوذه فيها بفعل الزحف المتواصل لقوات النظام، كما أنها أقل أهمية من الناحية الاستراتيجية كونها في الغالب صحارى تفتقر إلى الموارد وطرق الإمداد.
وتتصارع قوى عدة للوصول الى دير الزور أولاً، حيث لقوات الأسد وجود ثابت في المدينة ومحيطها ، بالرغم من أنها تخضع لحصار مزدوج من جانب تنظيم “داعش”. ويسيطر النظام على ثلاثة أحياء: الجورة والقصور وهرابش التي يحاصرها التنظيم، إلى جانب المطار العسكري، وهو محاصرٌ أيضاً من جانب التنظيم بعد أن نجح مؤخراً في عزله عن الأحياء التي يسيطر عليها النظام في المدينة، وبات المطار يعتمد على الإمداد الجوي الروسي.
وتسعى إيران وميليشياتها، ومن خلال تحالفها مع النظام السوري وروسيا، إلى إيجاد طريق بري آمن يربطها مع لبنان عبر العراق وسوريا. وقد دفعت لهذا الغرض أرتالاً من ميليشياتها وقوات النظام من “مثلث ظاظا” شرق منطقة “السبع بيار” في ريف حمص الشرقي إلى الحدود العراقية ليكون لها نقطة ارتكاز في المنطقة، متحدية التحذيرات الأميركية المتوالية.
وهناك أيضاً الأميركيون الذين يشنون عبر طيران التحالف غارات شبه يومية على محيط المدينة، ونشروا منظومة مدفعية جديدة متطورة من نوع “هيماراس”، لكن لا مؤشرات حتى الآن على أن لديهم قوات برّية حليفة كافية لشنّ هجوم على المدينة كما حصل في الرقّة. وتسعى القوات التابعة للمعارضة السورية في المنطقة للإفادة من الدعم الأميركي لتكون رأس حربة لأي هجوم على المدينة. وقد تمكنت تلك القوات من دخول الحدود الإدارية لدير الزور، من جهة الجنوب، بالتوازي مع الشريط الحدودي العراقي.
وفي هذا السياق، قالت مواقع إعلامية مقربة من “جيش مغاوير الثورة” الذي تدعمه قوات التحالف إن فصائل المعارضة تحضر لعملية عسكرية ضد تنظيم “داعش” في البادية السورية. ولم تشر تلك المواقع الى طبيعة المعركة المتوقعة، لكن تقارير سابقة قالت إن التحالف يخطط من قاعدته في “التنف” للسيطرة عبر فصائل المعارضة على مواقع قريبة من الحدود الإدارية لديرالزور.
دفعت إيران أرتالاً من ميليشياتها ومن قوات النظام من “مثلث ظاظا” قي ريف حمص الشرقي إلى الحدود العراقية ليكون لها نقطة ارتكاز في المنطقة، متحدية التحذيرات الأميركية المتوالية.
السيطرة على الثروات
ويبدو أن الإيرانيين ووكلاءهم على الأرض، أي النظام والميليشيات، مصممون على تثبيت وجودهم على الحدود برغم التحذيرات الأميركية المتواصلة، والتي بات ينظر اليها على أنها شكلية أوغير جادة رغم اقترانها أحياناُ بضربات فعلية لبعض أرتال الميليشيات المتقدمة نحو الشرق.
وفي هذا السياق، نقلت وكالة تسنيم الإيرانية، عن مصدر عسكري في القوات الإيرانية، قوله أن ” نهاية تنظيم “داعش” في سوريا ستكون بالسيطرة على ديرالزور، التي هي محور الصراع في الشرق السوري باعتبارها العقدة الاستراتيجية التي تربط العراق بسوريا”.
وأشارت الوكالة أن قوات النظام والميليشيات الإيرانية التي تقاتل معه، تعمل حالياً على تثبيت نقاطها في البادية السورية بغية الاستعداد لشن هجوم بري واسع على ديرالزور.
ونقلت مواقع موالية عن مصدر في جيش النظام قوله أن ” العملية العسكرية في عمق الصحراء الشرقية عملية معقدة وطويلة وتم التحضير والتخطيط لها بشكل جيد ، وهي تعتمد على عنصرين أساسيين: سلاح الجو والسيطرة على التلال الاستراتيجية والمرتفعة، وبفضل هذين العنصرين حسمت المعركة لصالح قواتنا”.
وإزاء مخططات ايران والنظام هذه، أصدرت مجموعة من فصائل المعارضة المقاتلة وفعاليات مدنية ووجهاء عشائر من أبناء محافظة دير الزور بياناً رسمياً قبل أيام توعدت فيه الميليشيات الإيرانية بالمواجهة العسكرية في عموم المناطق السورية. وأكد الموقعون على البيان “رفضهم القاطع للتدخل الإيراني بجميع أشكاله الطائفية”، وطالبوا ” الدول الصديقة للشعب السوري بالتدخل لوقف الزحف الإيراني في المنطقة”.
ويرى مراقبون أن النظام بعد أن استعاد مدينة حلب، وثبت وجوده في درعا جنوب سوريا، واستعاد كامل مدينة حمص، وفرض تسويات في ريف دمشق، بدأ عملية تحصين المنطقة الوسطى في دمشق وحمص، ومن ثم باشر التقدم شرق حمص وحلب ودمشق ليتمكن من الوصول الى الحدود العراقية، كخطوة على طريق مساعيه لانتزاع دير الزور، وعموم المنطقة الشرقية واضعاً عينه على الثروات الباطنية وعلى الحدود ومراكز المدن.
في مقابل تصميم إيران على التقدم وتثبيت وجودها على الحدود العراقية، تبدو التحذيرات الأميركية شكلية أوغير جادة رغم اقترانها أحياناً بضربات فعلية لبعض أرتال الميليشيات الإيرانية المتقدمة نحو شرق سوريا.
هدنة درعا
ولا تبدو مدينة درعا في الجنوب السوري بعيدة عن هذا المشهد، بل إن ما تعرضت لها منذ بداية الشهر الجاري من قصف جنوني يعتبر امتداداً لمعركة السيطرة على الحدود الممتدة من الحسكة في أقصى الشمال الشرقي الى القنيطرة في الجنوب الغربي.
وبعد أسبوعين من القصف العنيف ألقت خلاله طائرات النظام نحو 700 برميل متفجر على أحياء درعا الواقعة تحت سيطرة قوات المعارضة إضافة إلى حوالي 600 صاروخ “فيل” محلي الصنع فضلاً عن أكثر من 100 غارة جوية، توصّل الجانبان، أو بالأحرى من يدعم كل منهما إلى اتفاق على هدنة لمدة 48 ساعة قابلة للتمديد اعتباراً من يوم السبت الماضي. لكن قوات النظام عمدت إلى خرق الهدنة فور توقيعها، وإن كانت وتيرة القصف خفت بعض الشيء في اليوم التالي للهدنة.
وتشمل الهدنة وقف عمليات القصف الجوي والبراميل والمدفعي والصاروخي وكل أشكال العمليات العسكرية، كما تتضمن منع نظام الأسد من استقدام تعزيزات عسكرية إضافية الى المحافظة.
وكانت محافظة درعا “الحرة” أعلنت الأحياء الخارجة عن سيطرة النظام في المدينة وفي بلدات مجاورة لها “مناطق منكوبة”، وناشدت المنظمات الإنسانية والدولية والدول “التي بقي لديها حس إنساني” بمساعدة الأهالي في هذه المحافظة.
صدى الشام