تقترب الانتخابات الرئاسية الأميركية من موعدها، وهي تجري على دفعات، وعلى مراحل، لأميركيين في الداخل وفي الخارج. ومع ذلك، يكاد يبدو هذا الاستحقاق، وكأنه حدث محلي يخص الولايات المتحدة. يتعلق الأمر بطبيعة المترشحين الرئيسيين، فدونالد ترامب شخصية شعبوية طارئة على المسرح السياسي، ومن اللافت أن أركان الحزب الجمهوري الذي يمثله ترامب يتبرأون من هذا المترشح، وهي سابقة لا مثيل لها، وبينما يحدث أن يؤدي اختيار مرشح إلى امتعاض بعضهم، مع قبولهم نتائج التصويت الداخلي، ففي حال ترامب، فإنه بالكاد يجد أحداً من شخصيات حزبه يقف معه. وقد ظهرت بيانات تضم أسماء شخصيات جمهورية قيادية، تنأى بنفسها عن ترامب. لكن، وفي النهاية، في يوليو/ تموز الماضي، اقترع 1725 مندوباً من الحزب الجمهوري لمصلحته، فيما نال منافسه عضو مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس، السيناتور تيد كروز، أصوات 475 مندوبا. ومنذ بدء ترشيحه، لاحقته اتهاماتٌ تنعى عليه أهليته في أن يكون مترشحاً كفوءاً ومنافساً جاداً، غير أن هذه الاتهامات لم تمنعه من التقدم. فالشعبويون لهم بالتأكيد من صفتهم هذه نصيب، فالناس ما زالت تعشق التهريج، والمناوشات اللفظية، وصوغ المواقف السياسية بعباراتٍ مباشرة، وحتى سوقية. وتبحث عن شخصٍ يمثل جانباً مكتوماً لديها. والناس، قبل ذلك، يستهويها الناجحون أصحاب الثروات، فترامب ملياردير العقارات بات الشخص المرغوب، وحتى النموذج المطلوب، وليس أقطاب الصناعة والجامعات، أمثال عائلات روكفلر وبوش وفورد وسواهم.
من في وسعه حقاً أن يتابع ما يقوله هذا الرجل، بعد تفوهاته عن المسلمين قاطبة؟ أو بعدما حذر من تزوير الانتخابات في بلده، وإعلانه أنه سيعترف بنتيجة الانتخابات في حالة واحدة فقط، هي فوزه فيها، أما ما عدا ذلك فلن تحظى النتيجة بموافقته! وهناك من يتحدث عن أعمال شغب واسعة، سوف تقع إذا خسر السيد ترامب، وهو نفسه يومئ إلى ذلك. وقد أطلق مثل هذا التحذير ضد معارضيه في الحزب الجمهوري، في حال لم ينل موافقة الحزب على ترشيحه، وقد انتزع هذه الموافقة.. الآن، يهدد أنصاره بحرب “ثورية” إذا لم يفز مرشحهم. تنقل صحيفة نيويورك تايمز في 27 أكتوبر/تشرين الأول عن جيرد هالبروك (25 عاماً)، وهو أحد مؤيدي ترامب، قوله إنه إذا خسر ترامب السباق الرئاسي أمام كلينتون، فذلك سيقود إلى “حرب ثورية أخرى”، مبدياً تخوفه من خسارة مرشحه الجمهوري “عبر انتخابات مسروقة”. وأضاف هالبروك أن الناس سيجوبون شوارع المدن الأميركية، و”سيفعلون أي شيء يحتاجون إلى فعله، لإبعادها من منصبها، لأنها لا تنتمي إلى هناك. وإذا حان وقت الحسم، وعلى كلينتون أن ترحل بأيٍّ من الوسائل الضرورية، فسيتم فعل ذلك”.
إنها تهديدات مباشرة لسلامة السيدة كلينتون في حال فوزها، مع رسالةٍ ضمنيه بأن من الأفضل
لها أن تتجنب الفوز!. ترامب الذي تقدم في حملته بصفته مواطناً أميركياً تعنيه مصلحة بلاده أولاً وأخيراً وقبل أي طرف آخر. وحسب إدراكه هذه المصلحة، فقد حاول أن ينأى بنفسه عن الالتصاق بالاحتلال الإسرائيلي وعدم التماهي معه. لكن، ومع اقتراب الحملة من شوطها الأخير، كشف، قبل أيام، مستشاران للمرشح دونالد ترامب عن مواقف الأخير، والسياسة التي سوف يعتمدها حيال الإسرائيليين والفلسطينيين في حال فوزه. ردّد المستشاران، وهما ديفيد فريدمان وجايسون غرينبلات، بصورة حرفية ما يبثه نتنياهو واليمين الأشد تطرفاً، ولكن مع نسبة المواقف إلى ترامب، من قبيل إن القدس عاصمة أبدية للشعب اليهودي وغير قابلة للتجزئة، والعزم على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتأييد مفاوضات مباشرة بدون شروط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وأن حل الدولتين أصبح مستحيلاً، وكذلك رفض إقامة دولة إرهابية في الأراضي المحتلة. وهي مواقف يمكن تلخيصها بدعوة الفلسطينيين إلى الاستسلام وإسباغ شرعية على الاحتلال، وخصوصاً على القدس بعد التهويد القسري لها على مدى عقود، ورفض إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
يُراد من توقيت نشر هذه المواقف كسب أصوات أكبر عدد من الأميركيين اليهود، ومن عموم الأميركيين المؤيدين للتوسع الصهيوني. قد يطرأ تعديل على مواقف الرجل في حال فوزه، علماً أن العلاقة الأميركية مع تل أبيب من أكثر القضايا الداخلية القابلة للمزايدة والمتاجرة، والاستعراض السياسي. وهي تشبه تقريباً وضع القضية الفلسطينية في المشرق العربي، مع فارق أنهم في أميركا، وفي معرض تأييدهم وولائهم للصهيونية ولدولتها، فإنهم يقولون ويتبعون القول بالفعل (كأن يجمعوا تبرعات مالية كبيرة)، بينما في الجانب العربي يقولون، ثم يفعلون، في حالاتٍ كثيرة، عكس ما يقولون.
يمثل المترشح ترامب الجانب الشعبوي المحافظ المفعم بمشاعر تضخم الذات القومية والنظر
باستعلاء الى الشعوب والثقافات الأخرى. إنه يشبه أولئك البيض المتعصبين الذين كانوا يطاردون من هم من أصل إفريقي في خمسينيات القرن الماضي. ويحرص الرجل على أصوات هؤلاء، فيما يتجه مؤشر العداء العنصري تجاه المسلمين، والذي يرى ترامب، ومن يشايعه، في المملكة االعربية السعودية دولة للمسلمين. وكذلك تجاه المهاجرين وغالبيتهم الغالبة مسلمون. أطلق ترامب تفوهات عديدة تجاه السعودية، وتوقع أن تزول الدولة بزوال النفط، وطالب بفرض جزيةٍ على هذه الدولة، تُمنح لأميركا لقاء حمايتها. ولا يعرف ترامب، كما يبدو، حجم الاستثمارات السعودية والودائع المالية في أميركا، أو حجم مشتريات السعودية من الأسلحة الأميركية. كما أن أميركا لا تحمي السعودية عسكرياً على غرار حماية الفيليبين أو كوريا الجنوبية. لكن، بوصول الرجل إلى البيت الأبيض إن حدث، سوف يطبع ما وسعه ذلك صورة أميركا بطابعه الشخصي، وسيعيش العالم على وقع تدخلاتٍ أميركية مباشرة هنا وهناك. سبق لترامب أن أعلن إعجابه بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وبادله الأخير الإعجاب متمنيا فوزه، غير أن التشابه في شخصيتي الرجلين قابل لأن يحملهما على التنافس الشديد بينهما، بعد إبداء الإعجاب المتبادل.
على جبهة الديمقراطيين، انحصر التنافس بين عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرز المرشح الديمقراطي “الاشتراكي”، كما يحلو له وصف الذي تراجعت حظوظه في ترشيح الحزب الديمقراطي له لمصلحة كلينتون. وكان يمكن لو أنه مضى في ترشيح نفسه أن يضيف ترشيحه جديداً إلى المعركة الانتخابية. أعلن ساندرز بعدئذ دعمه ترشيح كلينتون، وبهذا، فإن الديمقراطيين متّحدون في الوقوف خلف مرشحتهم، خلافا للجمهوريين، حيث ترى نخبة الحزب أن ترامب لا يمثلها، ولا يمثل الحزب الجمهوري! على الرغم من أن ترشيحه عن الحزب تم بآليات الحزب، وبرغبة مندوبيه.
تبدو المواقف السياسية للمرشحة هيلاري كلينتون أقل اضطراباً لما تتمتع به من خبرة سياسية ودبلوماسية سابقة. وتركز على أخطاء منافسها، ونظرته الرجعية إلى المهاجرين وإلى النساء.
ويرى كثيرون داخل أميركا وخارجها أن كلينتون متقلبة في مواقفها. في وقت مبكر من بدء الحملة الانتخابية في مارس/آذار الماضي، أخذت كلينتون على منافسها ما اعتبرته موقفاً محايداً تجاه إسرائيل. وقد استندت حملتها، لدى إطلاقها إلى أنها المترشحة ذات الولاء المضمون لدولة الاحتلال، وليست على غرار ترامب الطارئ على عالم السياسة. وبطبيعة الحال، سوف تشهد السياسة الخارجية في عهدها، إن وصلت إلى البيت الأبيض، اندفاعة إلى الأمام، مقارنة بانكفاء إدارة أوباما. والسيدة هيلاري وفريق حملتها يعتقدون أن روسيا تتدخل بشكل واسع في الحملة الانتخابية، وإن حرباً إلكترونية تتعرّض لها مرشحة الحزب الديمقراطي التي ما زالت حظوظها بالفوز تتقدّم بصورة طفيفة على منافستها.
وفي ضوء ما تقدم، يستشف المرء لماذا يبدو الرأي العام العربي قليل الاحتفال بهذه الانتخابات الرئاسية الأميركية. ويعود ذلك لعوامل عدة، منها أن السياسة الخارجية الأميركية لا تبنى على المصالح، مع أقل اهتمام بالمبادئ، وأن هذه الانتخابات باتت تشبه الانتخابات في الديار العربية، بما فيها من عنتريات واستعراضات وغلبة الطابع الشخصي، والعامل الثالث، وهو الأهم، أن الاعتمادية على أميركا قلّت إلى حد بعيد.
محمود الريماوي_العربي الجديد