إذا تيسر لقطار العملية السياسية في سوريا أن يصل إلى محطة أستانة، ستدور المفاوضات حول تفاهمات بين موسكو وأنقرة، مع قبول إيراني حذر وترقب إقليمي وتربص أميركي، بانتظار محطات أخرى على درب الآلام السورية.
تبذل موسكو قصارى جهدها وتكثف التنسيق مع أنقرة بهدف التئام مؤتمر أستانة المخصص للتفاوض حول النزاع السوري، في موعده المبدئي في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، أو خلال الأسبوع الأخير منه على أبعد تقدير.
هذا السباق مع الوقت يتزامن مع تمركز إدارة دونالد ترامب وعشية دعوة ستيفان دي ميستورا الافتراضية لمؤتمر جنيف 4 في فبراير القادم. والواضح أنه في منعطف ما بعد حلب تسعى روسيا لإثبات قدرتها الريادية والأحادية في قيادة العملية السياسية في سوريا، وأنه بإمكان التنسيق مع تركيا (ضمن ترويكا إعلان موسكو مع إيران بالطبع) أن يكون أكثر فعالية من إدارة العراب سيرجي لافروف والمايسترو جون كيري للمسار السوري بين 2012 و2016. يفترض هذا الرهان قدرة على التحكم بالورقة السورية عسكريا وسياسيا، وهذا ما لا تملكه موسكو لوحدها ولا توفره لها الترويكا. ولذا ستكون محطة أستانة اختبارا للأداء الدبلوماسي الروسي بعد إنجازات “الاختراق الاستراتيجي” في السنوات الأخيرة على حساب الدور الأميركي.
مزج الرئيس الروسي فلاديمير بـوتين بين “القوة الصلبة” و“القوة الناعمة” في إدارته للحيز الأخير من معركة حلب. قبل انتهاء المعركة رسميا كان بوتين يعلن من طوكيو التـوافق مع تركيا على عقد مفاوضات في أستـانة، وعلى ذمة عدة مصادر “منعت موسكو الرئيس السوري بشار الأسد من إلقاء خطاب النصر في حلب”. وبعد ذلك تيسر تجاوز تناقضات الأضداد بين روسيا وتركيا وإيران، وحياكة إعلان الترويكا في موسكو من أجل فتح الطريق نحو أستانة.
إبان “الوقت الأميركي الضائع” وغياب الأطراف العربية والأوروبية عن دائرة الفعل، لم تكتف الدبلوماسية الروسية بغطاء الترويكا، بل طلبت تدويل الهدنة بقرار من مجلس الأمن الدولي ونجحت نسبيا لأن المجلس اكتفى بالترحيب وليس بالدعم، وأصر على وضع محطة أستانة تحت سقف مرجعية جنيف وإشراف الأمم المتحدة.
طغى الاستعصاء على الحراك الدبلوماسي بخصوص الملف السوري وفشلت مؤتمرات جنيف ومبادرة فيينا وغيرها، بسبب تفاقم الصراع الداخلي والاستقطاب الإقليمي والدولي في “اللعبة الكبرى”. ومن أبرز أسباب الفشل الغموض غير البناء في وثيقة جنيف 1 (يونيو من العام 2012) لناحية ربط تشكيل هيئة الحكم الانتقالي بالإجماع، وهذا ما سمح عمليا بتعطيل أي حل. وبعد تدخل روسيا الكثيف في آخر سبتمبر 2015، صدر القرار الأممي 2254 (ديسمبر 2015) الذي جرى فيه التوافق على خارطة طريق لتطبيق جنيف يعتمد القراءة الروسية، ويدعو لإجراء انتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة على أن يتم التحول السياسي بقيادة سورية. وإذا وضعنا جانبا رفض النظام السوري لأي تسوية سياسية لأنه كان يعتبرها التمهيد لنهايته، وربط الحراك الثوري بالقرار الخارجي أو استخدام ورقة الإرهاب لمنع التغيير، فإن الأدهى تمثل بعدم نفاد وظيفة النزاع السوري الجيوسياسية المتمثلة باستكمال تهديم وتفكيك سوريا وضرب الوزن العربي وتركيب الشرق الأوسط الجديد وفق هذه المتغيرات.
ومن هنا يبدو التساؤل مشروعا إذا كان مؤتمر أستانة سيقدم جديدا وهل نضجت ظروف الحل على الطريقة الروسية ويرتكز على إعادة تأهيل النظام وإدخال بعض التجميل عليه.
اللافت هذه المرة أنه بالرغم من غياب الآلية الواضحة لمراقبة وقف إطلاق النار، وعدم رفع الحصار وعدم إدخال المساعدات استنادا إلى أقوال الأمم المتحدة، فقد شهد الوضع- على خلاف المرات السابقة- احتراما نسبيا للهدنة باستثناء منطقة وادي بردى، وهذا يدلل على قدرة روسيا وتركيا على التأثير الميداني وحماية الاتفاق “الهش” حسب اعتراف الرئيس بوتين نفسه. وفي هذا الإطار، قبل عشرة أيام من موعد أستانة الافتراضي، أقدمت أنقرة وموسكو على خطوة إضافية في التقارب بينهما مع إقرارهما مذكرة مشتركة لضمان سلامة الطلعات الجوية خلال العمليات العسكرية في الأجواء السورية.
على الصعيد العملي، للمرة الأولى منذ بداية الحرب في سوريا، تقتضي خطة مباحثات أستانة أن تلتقي وفود عسكرية تمثل النظام والمجموعات المعارضة المسلحة الموقعة على اتفاق وقف إطلاق النار، وتكمن الأهمية القصوى لهذا التطور، حسب التصور الروسي، في مشاركة الفصائل الفاعلة على أرض الواقع. للوهلة الأولى، تسجل المعارضة السورية مكسبا لأن موسكو التي كانت تنحاز للرأي الأسدي القائل إن كل معارض إرهابي، اعترفت بفصائل مثل “أحرار الشام” و”جيش الإسلام” (كانت تطالب بوضعها على لائحة الإرهاب) وذلك ضمن التنسيق مع أنقرة.
بيد أن هذه التوليفة يمكن أن تطيح بشرعية تمثيل المعارضة حسب وثيقة جنيف والقرارات الدولية، حيث أن استبعاد الهيئة العليا للمفاوضات لصالح الممثلين العسكريين، يمكن أن يعقد لاحقا مسألة تمثيل المعارضة في المحطات التالية للعملية السياسية. بيد أن تجاوز مطبات الفيتو التركي على تمثيل الاتحاد الديمقراطي الكردي، والتصور الروسي لتغيير شكل وفد المعارضة السياسية عبر الإصرار على التوازي بين ما يسمى منصات، أدى إلى التوافق على مثل هذه التركيبة. وعلى ضوء الخلل في ميزان القوى والغلبة الـروسية وإذا نظرنا إلى النصف الملآن من الكأس، يمكن الاكتفاء بانتظار تثبيت الهدنة وخلق منـاخ ثقة كمحصلة لمبـاحثات أستانة في حال التئامها وعدم تعثرها في اللحظة الأخيرة.
كثرت التسريبات في الأيام الأخيرة حول رفع السقف السياسي والآمال المعلقة على مؤتمر أستـانة، ووصل الأمر بالبعض لضمان التسليم ببقاء بشار الأسد إلى الأبد أو حتى إلى انتخـابات 2021، وطـالعنا أسمـاء مجالس عسكرية وحكومات مؤقتة وتواريخ محددة للانتقال السياسي. وفي كل ذلك مبـالغة كبيرة لأن التفـاهم غير متـوفر بين روسيـا وتركيا وإيـران على هـذه المخـارج، ولأن المتـاعب المنتظرة لمـوسكو ستكون مع حليفها الإيـراني الذي يرفض التسليم بدورها الريادي، ويرفض عمليا الحل على الطريقة الروسية. وفي ما يتعدى هذه الإشكـالات بين الداعين للقاء أستـانة، برز إصرار أنقرة على مشـاركة واشنطن وعدم غيابها عن محطة أستانة، وهذا يعني أن بدء الكلام الحقيقي في تصورات الحل السياسي المرحلي سينتظـر الـربيع القـادم أي بدء شروع إدارة ترامب عملها بشكل فعلي.
في الخلاصة، إذا تيسر لقطار العملية السياسية في سوريا أن يصل إلى محطة أستانة، ستدور المفاوضات حول تفاهمات بين موسكو وأنقرة، مع قبول إيراني حذر وترقب إقليمي وتربص أميركي، بانتظار محطات أخرى على درب الآلام السورية.