وكما في الأساطير، انتصبت الولادة مقابل الموت. لقد وُلدت الثورة فليمتْ أعداؤها. وهي، بالفعل، كانت أيّاماً مجيدة لثنائيّة الموت والولادة. «الفجر الجديد» الطالع يطوي ليل الظلمات والظلامات. «وجهك يا غرب مات»، كما كتب أدونيس.
بعض أهل «الشرق» وجدوا ما يُشبع رغبتهم في الانتقال من مُهان سُمّي «رجلاً مريضاً» يحتضر إلى مُهين ينتقم. في 1904 تفاخروا بانتصار اليابان «الآسيويّة» على روسيا «الأوروبيّة». أصداء عبارات كـ«ريح الشرق تهزم ريح الغرب» الماويّة، و«ارفع رأسك يا أخي» الناصريّة، كانت لا تزال تطنّ في الرؤوس.
الخميني بدا يومذاك كمن يتطوّع لتحقيق أحلامنا: في ظلّه سنرتقي من انقساماتنا إلى «وحدة إسلاميَّة» ناجزة، وبقيادته سوف نصلِّي في القدس، وفي الطريق نحرّر فلسطين. وفي النهاية، فالذي يهين أميركا لا يقف شيء في وجهه. أمّا النموذج نفسه فكانت جِدّته حصانة له. إنّه لم يُجرّب قبلاً، وبالتالي فكلّ حجّة ضدّه تجنٍّ عليه.
لكنّ اهتزاز حجر واحد كان في وسعه هزّ البناء المتناسق والمتماسك. والأحجار التي اهتزّت كانت كثيرة. ما بين الحرب مع العراق في 1980 واتفاقيّة أوسلو في 1993 خرج ملايين العرب، وفي عدادهم بالطبع فلسطينيّون، من نفق ثنائيّة الخير الإيراني المطلق والشرّ الأميركي المطلق. بين هذين التاريخين، لجأت طهران عام 1983 إلى الانتحاريين، لا إلى «الأمواج البشريّة»، كي تقتل أميركيين في بيروت. «فضيحة إيران غيت» وسّعت مساحات الشكّ بطهارة الأئمة القُمّيين، وحين انهارت الكتلة السوفياتيّة تأكّد لكثيرين أنّ الموت يصطاد أعداء أميركا. ولئن تجدّدت شيطنة الأخيرة مع حرب العراق عام 2003، فهذا لم يُفض إلى تأليه إيران التي عوملت كشريك مُقنّع في الجريمة. ثمّ في 2005 بدأت أكثريّة لبنانيّة ترى في طموحات طهران ما يكمّل طموحات تلّ أبيب، وهو ما تعزّز باجتياح بيروت عام 2008. في هذه الغضون، قلّلت «الانتفاضة الخضراء» في 2009 الحماسة القليلة أصلاً لنموذج لا يعمل. أمّا في سوريّا بعد ثورتها، فتبدّى حكّام إيران على هيئة جلاّدين. بعض السوريين رأوا فيهم استعماراً استيطانيّاً لم يعهدوا مثله من قبل.
والحال أنّ الثورات العربيّة كلّها أضعفت صوت الآيديولوجيا حيال الولايات المتّحدة، وأطلقت صوت المصالح الوطنيّة: هناك مواقف أميركيّة تستدعي النقد وأخرى تستدعي التثمين. الحسبة لم تعد بالجملة. صارت بالمفرّق.
من جهة أخرى، كان للتمدّد الإيراني في العراق، بعد سقوط النظامين الصدّامي والطالباني على يد أميركا، أن بدّد ما تبقّى من صورة العداء الإطلاقي كما نشرتها الخمينيّة. التعايش اللاحق في بلاد الرافدين، والذي لم يتعرّض إلاّ اليوم للتحدِّي الجدِّيِّ، أكّد أنَّ النقيضين ليسا دائماً نقيضين.
في مكان آخر، في الثقافة، توازنت قوّة إيران وضعفها. قوّتها استمدّتها من رِيادتها زمنَ الهويّات، وإحلالها النقد الثقافي للغرب كـ«غازٍ حضاريّ» محلّ نقده الاقتصادي كـ«إمبرياليّ». لكنّ الوجه الآخر لصعود المسألة الثقافيّة لم يعمل لصالحها: إنّه عولمة الشبيبة فيها كما في سواها، وفيها أكثر مما في سواها. صحيحٌ أنَّ مفاهيم الشبيبة والأجيال ليست عابرة للطبقات والمناطق والإثنيّات، إلاّ أنَّ الرأي العامّ الشبابي الذي يتشكّل في المدن الكبرى ويعممه الإعلام بدا شديد العداء للنظام الكالح. وبعدما انحصرت الحماسة للأخير في شبّان من لون مذهبي محدّد، دون أن يُستهان بعددهم الذي تُظهره شوارع إيران اليوم، بدأت الحماسة تفتر في العراق، بل داخل إيران نفسها أيضاً. ولأنّ السياسة لم تعد تختزل الوجود الاجتماعي كلّه، أمكن لرفض الشبيبة سياسات أميركا ورئيسها أن يترافق مع إعجابها ببلد الرئيس المكروه. فأميركا هي أيضاً الموسيقى والصورة والموضة والجامعة والمستشفى وأشياء أخرى كثيرة ينبغي ألاّ تموت. وبدورها فشلت الآيديولوجيا الحاكمة في طهران حيث نجحت مثيلات لها، فلم تنمُ على هامشها صناعة استهلاكيّة للأيقونات قابلة للرواج خارج بيئتها المذهبيّة. لقد ظلّت جسداً جامداً عصيّاً على السوق ومنيعاً على الصورة والحركة. وكان ما كرّس هذا الافتقار عقدة العيش في المتراس وضعف القدرات الماليّة، خصوصاً بعد العقوبات.
أمّا إسرائيل فبالطبع لا تزال إشكالاً كبيراً عالقاً مع أميركا، لكنّه لم يعد كافياً لطلب الموت لأميركا ولا لطلب الحياة لإيران. فوق هذا، فدعوات طهران، بتكراريّتها وعنفيّتها، باتت تصطدم بالحساسيات الشبابيّة الراهنة في سلميّتها وبَرَمها بالتكرار وطلبها الجديد وإلحاحها على سرعته. ومُضجرٌ جدّاً ذلك الخطاب البليد عن أميركا بوصفها قاتلة الهنود الحمر ومدمّرة فيتنام. وحدهم، يتامى الوعي الذي تساقط في العقود الماضية، ممن لا يضجرون من شعارات عنفيّة ردّدوها لثمانين عاماً، ظلّت تفتنهم إيران. هؤلاء، للأسف، هم الذين يموتون اليوم.
بعض أهل «الشرق» وجدوا ما يُشبع رغبتهم في الانتقال من مُهان سُمّي «رجلاً مريضاً» يحتضر إلى مُهين ينتقم. في 1904 تفاخروا بانتصار اليابان «الآسيويّة» على روسيا «الأوروبيّة». أصداء عبارات كـ«ريح الشرق تهزم ريح الغرب» الماويّة، و«ارفع رأسك يا أخي» الناصريّة، كانت لا تزال تطنّ في الرؤوس.
الخميني بدا يومذاك كمن يتطوّع لتحقيق أحلامنا: في ظلّه سنرتقي من انقساماتنا إلى «وحدة إسلاميَّة» ناجزة، وبقيادته سوف نصلِّي في القدس، وفي الطريق نحرّر فلسطين. وفي النهاية، فالذي يهين أميركا لا يقف شيء في وجهه. أمّا النموذج نفسه فكانت جِدّته حصانة له. إنّه لم يُجرّب قبلاً، وبالتالي فكلّ حجّة ضدّه تجنٍّ عليه.
لكنّ اهتزاز حجر واحد كان في وسعه هزّ البناء المتناسق والمتماسك. والأحجار التي اهتزّت كانت كثيرة. ما بين الحرب مع العراق في 1980 واتفاقيّة أوسلو في 1993 خرج ملايين العرب، وفي عدادهم بالطبع فلسطينيّون، من نفق ثنائيّة الخير الإيراني المطلق والشرّ الأميركي المطلق. بين هذين التاريخين، لجأت طهران عام 1983 إلى الانتحاريين، لا إلى «الأمواج البشريّة»، كي تقتل أميركيين في بيروت. «فضيحة إيران غيت» وسّعت مساحات الشكّ بطهارة الأئمة القُمّيين، وحين انهارت الكتلة السوفياتيّة تأكّد لكثيرين أنّ الموت يصطاد أعداء أميركا. ولئن تجدّدت شيطنة الأخيرة مع حرب العراق عام 2003، فهذا لم يُفض إلى تأليه إيران التي عوملت كشريك مُقنّع في الجريمة. ثمّ في 2005 بدأت أكثريّة لبنانيّة ترى في طموحات طهران ما يكمّل طموحات تلّ أبيب، وهو ما تعزّز باجتياح بيروت عام 2008. في هذه الغضون، قلّلت «الانتفاضة الخضراء» في 2009 الحماسة القليلة أصلاً لنموذج لا يعمل. أمّا في سوريّا بعد ثورتها، فتبدّى حكّام إيران على هيئة جلاّدين. بعض السوريين رأوا فيهم استعماراً استيطانيّاً لم يعهدوا مثله من قبل.
والحال أنّ الثورات العربيّة كلّها أضعفت صوت الآيديولوجيا حيال الولايات المتّحدة، وأطلقت صوت المصالح الوطنيّة: هناك مواقف أميركيّة تستدعي النقد وأخرى تستدعي التثمين. الحسبة لم تعد بالجملة. صارت بالمفرّق.
من جهة أخرى، كان للتمدّد الإيراني في العراق، بعد سقوط النظامين الصدّامي والطالباني على يد أميركا، أن بدّد ما تبقّى من صورة العداء الإطلاقي كما نشرتها الخمينيّة. التعايش اللاحق في بلاد الرافدين، والذي لم يتعرّض إلاّ اليوم للتحدِّي الجدِّيِّ، أكّد أنَّ النقيضين ليسا دائماً نقيضين.
في مكان آخر، في الثقافة، توازنت قوّة إيران وضعفها. قوّتها استمدّتها من رِيادتها زمنَ الهويّات، وإحلالها النقد الثقافي للغرب كـ«غازٍ حضاريّ» محلّ نقده الاقتصادي كـ«إمبرياليّ». لكنّ الوجه الآخر لصعود المسألة الثقافيّة لم يعمل لصالحها: إنّه عولمة الشبيبة فيها كما في سواها، وفيها أكثر مما في سواها. صحيحٌ أنَّ مفاهيم الشبيبة والأجيال ليست عابرة للطبقات والمناطق والإثنيّات، إلاّ أنَّ الرأي العامّ الشبابي الذي يتشكّل في المدن الكبرى ويعممه الإعلام بدا شديد العداء للنظام الكالح. وبعدما انحصرت الحماسة للأخير في شبّان من لون مذهبي محدّد، دون أن يُستهان بعددهم الذي تُظهره شوارع إيران اليوم، بدأت الحماسة تفتر في العراق، بل داخل إيران نفسها أيضاً. ولأنّ السياسة لم تعد تختزل الوجود الاجتماعي كلّه، أمكن لرفض الشبيبة سياسات أميركا ورئيسها أن يترافق مع إعجابها ببلد الرئيس المكروه. فأميركا هي أيضاً الموسيقى والصورة والموضة والجامعة والمستشفى وأشياء أخرى كثيرة ينبغي ألاّ تموت. وبدورها فشلت الآيديولوجيا الحاكمة في طهران حيث نجحت مثيلات لها، فلم تنمُ على هامشها صناعة استهلاكيّة للأيقونات قابلة للرواج خارج بيئتها المذهبيّة. لقد ظلّت جسداً جامداً عصيّاً على السوق ومنيعاً على الصورة والحركة. وكان ما كرّس هذا الافتقار عقدة العيش في المتراس وضعف القدرات الماليّة، خصوصاً بعد العقوبات.
أمّا إسرائيل فبالطبع لا تزال إشكالاً كبيراً عالقاً مع أميركا، لكنّه لم يعد كافياً لطلب الموت لأميركا ولا لطلب الحياة لإيران. فوق هذا، فدعوات طهران، بتكراريّتها وعنفيّتها، باتت تصطدم بالحساسيات الشبابيّة الراهنة في سلميّتها وبَرَمها بالتكرار وطلبها الجديد وإلحاحها على سرعته. ومُضجرٌ جدّاً ذلك الخطاب البليد عن أميركا بوصفها قاتلة الهنود الحمر ومدمّرة فيتنام. وحدهم، يتامى الوعي الذي تساقط في العقود الماضية، ممن لا يضجرون من شعارات عنفيّة ردّدوها لثمانين عاماً، ظلّت تفتنهم إيران. هؤلاء، للأسف، هم الذين يموتون اليوم.
نقلا عن الشرق الأوسط