فكرة إرسال قوات برية تركية إلى سورية قديمة، ردّدها سياسيون ومحللون أتراك، وقد فجرت نقاشات حادة بين المؤيدين القلة والمعارضين الكثيرين، حتى لا تقع تركيا في المستنقع السوري الذي يحاول بعضهم جرّها إليه. وكررت قيادات حزب العدالة والتنمية مراتٍ أنها لن تدخل الأراضي السورية، إلا إذا ما حاول بعضهم فرض متغيّراتٍ ديمغرافيةٍ سياسية أمنية، تهدّد الأمن القومي التركي على حدودها الجنوبية، وتمسّ البنية السياسية والدستورية والعرقية لسورية.
ويتطابق إعلان انطلاق عملية درع الفرات في 24 يوليو/ تموز مع ما قالته أنقرة، مراتٍ، حيث زاد عدد الهجمات الانتحارية لتنظيم داعش انطلاقا من الأراضي السورية وحيث وسعت الوحدات الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي رقعة انتشارها باتجاه شمال غرب سورية للوصول إلى كانتون عفرين، لتحقيق حلم الكيان الكردي المستقل في دولة فيدرالية، يراهن عليها بدعم أميركي، وهما أبرز سببين قدمتهما تركيا لتبرير دخولها إلى سورية.
تقول تركيا إن ما دفعها باتجاه الدخول العسكري المباشر في شمال سورية تحت غطاء “درع الفرات” هو قانونياً إعلان حقها المشروع في منع الهجمات الإرهابية التي تنفذ ضدها انطلاقا من الأراضي السورية، وتقاسم تنظيم داعش من جهة وعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي من جهة أخرى لمناطقها الحدودية مع سورية، ما يحاصرها جنوبا.
أما سياسياً، وهو ما لا تقوله طبعا، فهو شعورها بتراجع دورها الإقليمي في سورية والعراق، وتخلي أوروبا عنها بعد الحصول على ما تريد من ضماناتٍ أوقفت حركة اللجوء والهجرة غير الشرعية عبر البوابة التركية. الربع الأخير في خطة عفرين الكردية عطلتها قبلة عودة الروح التي وضعها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على جبين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والابتسامة الساحرة نحو إسرائيل وإيران، والتي أشعلت الضوء الأخضر أمام الوحدات التركية وقوات الجيش الحر للانطلاق باتجاه جرابلس.
أفشلت تركيا المشروع الأميركي الكردي في شمال سورية، وأعادت الاعتبار لقوات الجيش السوري الحر، وضرورة إشراكه في المعارك العسكرية ضد “داعش”. وبالتالي، في صناعة المشهد السياسي في سورية، لكن مسألة تفرّدها بإعلان المنطقة الآمنة، والتحضير لها رغما عن اللاعبين المحليين والإقليميين شيء آخر.
على الرغم من إعلان أنقرة تمسّكها بإنجاز مهمة المضي، حتى النهاية، في عملية درع الفرات، وتطهير منطقة غرب النهر من التنظيمات الإرهابية، بعرض 95 كلم، تمتد من جرابلس شرقاً وحتى إعزاز غربًا، وبعمق يصل إلى 40 كلم، باتجاه الباب، وهي البقعة الجغرافية التي تطمح أنقرة إلى تحويلها منطقة آمنة في شمال سورية، فإن متابعين كثيرين يرون أن هذه العملية باتت تحتاج، اليوم، إلى شرح مطوّل مفصل بشأن أهدافها الحقيقية، كونها بدأت تثير بعض الشبهات والغموض، وتساؤلاتٍ كثيرة بشأن المنحى الذي تسير عليه، والذي قد يتسبب في إشعال مواجهات إقليمية ودولية بين مساند ورافض، خصوصا أن العمليات العسكرية هناك بدأت تتقدم ببطء، ولم تحقق لتركيا سوى ربع ما تريده على الأرض، لناحية المساحة الجغرافية التي تتحدّث عنها.
ناهيك عمّا جرى، أخيراً، حيث استطاع عناصر تنظيم الدولة الإسلامية استعادة قرىً، سبق أن خسرها في منطقة الراعي، إضافة إلى الأزمة الداخلية في صفوف فصائل الجيش الحر، بعد إعلان وحدات مشاركة في العملية انسحابها من الجبهات، احتجاجاً على تدخل قوات أميركية خاصة في سير العمليات العسكرية.
القانون الدولي … وتساؤلات
هل يعطي القانون الدولي تركيا الحقّ لتغيير خطتها من التدخل، لحماية حدودها من الإرهاب إلى التطلع نحو إنشاء منطقة آمنة في شمال سورية، من دون موافقة السوريين، ودعم المجتمع الدولي؟ وتتطلب إعادة آلاف اللاجئين السوريين إلى الأراضي التركية إنشاء منطقة آمنة توفر لهم الحماية والعمل والبقاء. هل بمقدور تركيا، بمفردها، أن توفر ذلك كله لهم داخل الأراضي السورية؟ ومن الذي يضمن لتركيا في المستقبل أنها لن تتحول في نظر كثيرين إلى دولةٍ تفرض نفسها بالقوة، وتتدخل في الشؤون الداخلية لدولةٍ جارةٍ، بينما كانت تردّد أن هدف عملية درع الفرات إبعاد التنظيمات الإرهابية عن حدودها، والدفاع عن وحدة سورية واستقرارها؟
وهل سيكفي تركيا أن تقول إن مشروع المنطقة الآمنة الذي تدعو إليه سيساهم في حماية وحدة سورية وتماسكها، من دون البحث عن قرارات ومساندة أممية ودولية؟ نجاح أنقرة بإقناع الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الملف السوري بمشروعية عملية درع الفرات، والحرب على الإرهاب، هل سيفهمه ويفسره بعض الأتراك بأنه يعطيهم الحق لفرض أنفسهم على الحل السياسي، أو العسكري، في سورية والعراق، وأن تجلس تركيا أمام تقاطع طرق الحلول لتراقبه وتديره، أو تعطي موافقتها عليه؟
ناقش القانون الدولي العام قضايا، مثل خطط المناطق العازلة أو الفاصلة بين المتحاربين أو الحظر الجوي، وإعلانه لمنع استهداف المدنيين في مناطق معينة وممرات إنسانية آمنة، لتوفير انتقال المدنيين أو إيصال المساعدات إليهم، لكنه، للمرة الأولى، يتعرف على مصطلح “المنطقة الآمنة” الذي تروجه تركيا على طريقتها، ومنذ أكثر من أربعة أعوام، في مناطق الحدود التركية السورية المشتركة.
تحتاج الخطة التركية الهادفة إلى تحويل بناء المنطقة الآمنة فرصة لمناقشة ملف الأزمة السورية باتجاه التفاهم والحلحلة دعماً أممياً أو دولياً لتنفيذها، ولا يمكن لتركيا أن تنجزها بمفردها، بسبب أعبائها ومتطلباتها السياسية والعسكرية والاقتصادية. وتريد تركيا أن تتم العملية بالتنسيق مع حلف شمال الأطلسي الذي تنتمي إليه، لكن العقبة أميركية، لأن لواشنطن حساباتها التي هي مختلفة، كما يبدو.
عندما يكرّر الرئيس أردوغان أن السبب الأساسي والأول لتصاعد الإرهاب في المنطقة هو النظام في سورية. ويعلن، مرة أخرى، من نيويورك، وبحضور نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إنه “يتوجب اليوم قبل الغد بدء مرحلة انتقالية، لا يكون الرئيس السوري، بشار الأسد، جزءاً منها”، فهذا يعني أن تركيا لم تغير رأيها حيال دور الأسد ومستقبله في بناء سورية الجديدة، على عكس ما تصوره بعضهم أو راهن عليه.
وهذا يعني أن النظام في دمشق سيصعّد مجدداً ضد أنقرة على كل الجبهات، ويلعب ما يملك من أوراق لمحاصرتها في “درع الفرات”. ويتحدّث بعضهم عن سيناريو محاولة خلط دمشق الأوراق، بدعم إيراني روسي، إذا ما بالغت أنقرة في التحرك بمفردها على هذا النحو. وللرد على درع الفرات، عبر عملية عسكرية للنظام، نحو منطقة الباب، فهل هذا بين الاحتمالات.
جدال مع أميركا
وينبغي أن تؤخذ نقاشات أخرى بالاعتبار أيضاً، بينها أن الرد الأميركي الكردي المحتمل على التقدم العسكري التركي، بعد هذه الساعة، لن يكون في شمال سورية، بل على الجبهات العراقية نفسها. وفي معركة استرداد الموصل، حيث تصر واشنطن على إشراك الوحدات الكردية السورية المجهزة والمدربة جيداً، كما تقول، لمساعدة العراقيين على استرداد أراضيهم. لكن بين الأهداف الحقيقية لواشنطن هناك مسألة منع أنقرة من التدخل العسكري في الموصل، والهدف هو موازنة الانتصار التركي على جبهات شمال سورية، بانتصار كردي سوري في العراق نفسه، يعيد الاعتبار إلى هذه القوات، ويسقط المطلب التركي في إخراج حزب العمال الكردستاني من معادلة شمال العراق.
تذكّر تركيا واشنطن بالاجتماع السياسي العسكري الذي عقدته مع قيادات أميركية في أنقرة، في 23 أغسطس/ آب عام 2012. يومها، كانت تحدّثهم عن المنطقة الآمنة، وكان عدد الوافدين السوريين لا يزيد عن مئة ألف. وهي تحاول اليوم إقناعهم بذلك، وعدد اللاجئين السوريين يصل إلى ثلاثة ملايين. ويقول الأميركان إنهم سيفعلون الصحيح. ولكن، بعد أن يجرّبوا كل الطرق الفاشلة، لا تقل عن مقولة الأميركان إنهم سينجحون، بعد أن يكون النجاح هو الخيار الوحيد المتبقي أمامهم. لذلك، على تركيا عدم الرهان كثيراً على الموقف الأميركي الذي أعلن الرئيس، باراك أوباما، ووزير الخارجية جون كيري، أن حدوده منطقة حظر طيران في الأجواء الشمالية لسورية. لكن، في إطار مشروع الهدنة مع روسيا، وليس في إطار المشروع التركي الذي تطرحه أنقرة.
أحدث ما وصلت إليه تركيا اليوم كان الحوار التالي، بين الرئيس أردوغان ونائب الرئيس الأميركي جو بايدن، على هامش أعمال قمة نيويورك الأممية: هل تعلم أن بلادك أرسلت إلى زعيم الاتحاد الوطني (الكردي)، صالح مسلم، في كوباني، طائرتين محملتين بالسلاح والعتاد بينها أسلحة ثقيلة، وأنها ليست المرة الأولى، حيث سبق وأرسلتم ثلاث طائرات وقعت نصف حمولتها بيد تنظيم داعش؟ لا لا علم لي بذلك، كان رد بايدن. أعرف ذلك، وأقوله لك الآن لتتصرف، هو جواب أردوغان، قبل إنهاء اللقاء.
ولا يقل ما فعلته واشنطن وأغضب أنقرة تأثيراً عما قاله أردوغان نفسه قبل أيام، وربما أقلق واشنطن أيضا “سنواصل التقدم نحو الجنوب في سورية”. عندما نسمع وزير الدفاع الأميركي، آشتون كارتر، يردّد أن بلاده ستواصل دعم الوحدات الكردية في سورية عسكرياً ومادياً، من الطبيعي جدا إذاً أن نرى العلم الأميركي يرفرف فوق أبنية تل أبيض وكوباني ومنبج.
وقد تركّزت التحذيرات التركية، في السنوات الماضية، على القول إن المصدر الحقيقي للمشكلة هو نظام الأسد، وأنه لا مفر من إقامة منطقةٍ آمنةٍ لمنع المأساة الإنسانية، ووضع حد لأزمة الهجرة، وأن خوض معركةٍ على الأرض أمرٌ لا مهرب منه، إذا ما أردنا أن نخوض حرباً فعالة ضد داعش، وضد غيرها من المنظمات الإرهابية، ورفض السماح بإقامة مناطق منفصلة ذات طابع عرقي أو ديني، وأنه ليست هناك وصفة سحرية لإنهاء الحرب فوراً. لكن، هناك طرق يمكنها إنقاذ حياة الأبرياء، وإن رسم الخارطة لهذه “المنطقة الآمنة” يجب أن يكون من الأمم المتحدة، وكذلك يجب أن تحمي قوات التحالف أو قوات تابعة للأمم المتحدة هذه المناطق الآمنة، فتركيا لا تستطيع المضي في مسألة “المنطقة الآمنة”، من دون غطاء واضح أيضاً من حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي هي عضو مؤسس فيه.
تشديد تركي
ويقول الناطق الرسمي باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالن: “من الناحية النظرية، يجمع الكل على وجوب إنشاء مناطق آمنة في سورية، إلا أنّه، من الناحية العملية، لا أحد يقدم على خطوةٍ في هذا الخصوص، مع العلم أنّ السبيل الوحيد لوقف حركة اللجوء يكمن في إنشاء مثل هذه المناطق، فنحن سنستمر في دعم المعارضة المعتدلة، وسنعمل على إنشاء حزام آمن في الشمال السوري”.
ويقول وزير الخارجية التركي، مولود أوغلو، في مؤتمر صحافي مشترك مع الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، في أنقرة، إنّ إنشاء منطقة آمنة في شمال سورية أمر مهم جداً، وأنّ ذلك يتطلب قراراً من مجلس الأمن الدولي، وأنّ المساعي التركية الهادفة إلى إيجاد هذه الحالة الآمنة في المدينة المذكورة، تأتي بسبب رغبتها في إتاحة الفرصة للاجئين السوريين الراغبين في العودة إلى بلادهم، والعيش فيها. فهل ستكفينا، على المستوى القانوني والسياسي، مقولة إن دخول القوات التركية إلى سورية جاء استجابةً لدعوة من الشعب السوري، وأنّ تركيا ليست بحاجة إلى أخذ إذن من نظام قتل 600 ألف إنسان من شعبه؟
وقد أيد الأمين العام للحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، ومسؤولون أوروبيّون بارزون، عملية درع الفرات التي تنفّذها تركيا، معتبراً أن من حق أنقرة “الدفاع عن نفسها”، لكنهم رفضوا مشاركة قوات أطلسية في العمليات العسكرية، لأن دور الحلف ضد “داعش” يقتصر على دعم جوي ومعلومات استخباراتية.
تردّد الحلفاء في دعم الخطة التركية تقابله على الأرض أنباءٌ عن تجهيز 41 ألف جندي تركي، للدخول إلى معركة الباب، ما يعني أن تركيا مصرّة على توسيع رقعة سيطرة الجيش السوري الحر، لإنجاز التمدّد باتجاه إقامة المنطقة الآمنة، ورسم حدودها بأسرع ما يكون، قبل انتقالها إلى معركة الموصل، وهي سيناريوهات تركية جديدة، قد تتحول إلى مواجهة تركية على أكثر من جبهة سياسية ودبلوماسية وعسكرية، فهل وضعت أنقرة ذلك كله في حسابات الربح والخسارة؟
باتت تركيا اليوم تملك قدرات وتجارب ضخمة، بعد أكثر من خمس سنوات في التعامل مع قضايا اللاجئين، وتأمين احتياجاتهم، وهي قادرة، بالتنسيق مع المنظمات والهيئات الدولية، على المساهمة في تأمين إدارة هذه المناطق من خلال تقديم الدعم والخدمات اللوجستية لهم، كما حدث في جرابلس، حيث باشرت، على الفور، شركات تركية بإعادة خدمات الماء والكهرباء والاتصالات وغيرها. وفي مقدور تركيا بعد اليوم أن تقول إنها باتت صاحبة الدور الأساسي والفاعل في الحرب على الإرهاب، وتحديداً أن تكون رأس الحربة في الحرب على تنظيم داعش، وأن تبدي استعدادها للمشاركة في العمليتين العسكريتين الكبيرتين اللتين ستستهدفان تنظيم الدولة الإسلامية في الرقة والموصل، فهل ستفرط بما شيدته في الأعوام الأخيرة بمثل هذه البساطة؟
لا بد أن تعيد حكومة حزب العدالة والتنمية، حتى لا تنجرّ إلى حرب استنزاف طويلة الأمد داخل الأراضي السورية، أن تعيد مراجعة أولوياتها وخياراتها، ودراسة المخاطر التي ستترتب على التأخر في إنهاء هذه العملية، وفي مقدمتها خسارة مصداقيتها التي ردّدتها دائماً، ودفعتها إلى التدخل في رفض أي وجود لمليشيات قوات “سورية الديمقراطية” في غرب الفرات، ما يعطي واشنطن الذريعة التي تريدها لإبقاء هذه الوحدات في منبج.
وأن تتحرّك سريعا لعدم فقدان فرصة الدعم السياسي والشعبي الداخلي للعملية والتماسك السائد اليوم. وعدم الوقوف أمام منصة الانتقال من موقع اللاعب الداعم للشعب السوري، في ثورته المحقة، إلى موقع من يحاول أن يفرض نفسه على مسار الثورة ومستقبلها في سورية. والتحول من داعم للشعب السوري في ثورته للوصول إلى مطالبه السياسية والاجتماعية في التغيير والعدالة إلى دولةٍ تشارك مباشرة في المعارك، ما يتركها على مسافة واحدة مع دولٍ عديدة تدخلت عسكرياً، وساهمت في تخريب سورية.
العربي الجديد – سمير صالحة