يمكن القول، بعد خمس سنوات ونصف السنة من النزيف والاستنزاف للسوريين، إن الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي غياب الحقائق وتغييبها. ففي الحالة السورية، هناك مستويان، الأول واقعي ميداني، لا يمكن الوقوف الدقيق على مجرياته، إلاّ لمن هو داخل المعركة، حيث يمكن أن يصف المشهد كما يراه، لكنه لا يمكن أن يعرف خفاياه، ولا أن يرى الخيوط اللامرئية التي تحرّك أدوات العنف فيه. والمستوى الآخر هو الحراك الإعلامي الذي واكب الانتفاضة السورية منذ اليوم الأول، ولازم تحولاتها وانحرافاتها حتى اليوم الذي لم يعد ممكناً فيه القول إن هناك ثورة، وإنما حربٌ تتوالى فيها المعارك، وفق استراتيجية تبدو محكمةً ومحبوكةً بدرجة فائقة الدقة.
لم يكن هناك حراك سياسي بالشكل المأمول الذي يمليه الواقع الرهيب للشعب السوري والوطن السوري، من دمار وخراب لم يسلم منهما بنيان، فقد ارتهنت القوى الفاعلة المحلية لأجنداتٍ خارجية، ولم تكن مالكةً زمام القرار في أيٍّ من أوقات هذه الأزمة المستعصية، أدخلتنا المنظمات الدولية، بقراراتها وبياناتها ومبادراتها ومؤتمراتها، التي عقدت باسم الشعب السوري عن طريق ممثليه، في متاهة “الخطوة خطوة” التي ابتدعها ذات مكر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، حيث كانت كل خطوة تنسينا الخطوات التي قبلها، وتدفع الحوار المفترض إلى أن يجري بين أطياف الشعب السوري، صاحب القضية التي هي قضية وطن وشعب، من حقهما الحياة، إلى مفاوضاتٍ تكرس حقيقة أن الحراك في سورية هو صراع من أجل السلطة ليس أكثر، مهما رفعت شعاراتٌ، من قبيل الحرية والديمقراطية والعدالة التي تقاتل المعارضة التي تحولت إلى فصائل وكتائب ومقاتلين، يجيدون حمل السلاح والقصف، من أجلها، أو شعارات السيادة الوطنية، ودحر المؤامرة الكونية والقضاء على الإرهاب، وغيره من شعاراتٍ يرفعها النظام.
وحتى اليوم، حيث تدور المعارك في حلب، حاضرة سورية وماضيها العريق وتراثها الثري، ما زلنا بعيدين عن الحقائق كلها. إعلامٌ يجيد التضليل، كل المنابر تعرض أجزاء من الوقائع، بينما الحقيقة غائبة باستمرار، لا يملك الشعب السوري، المشتت المهجر، النازح اللاجئ المطرود من أمكنته، المحروم من حياته، المسلوب منه قراره، غير مشاهد أشلاء إخوته، وقد شرذمتها القذائف، ركام بيوته وبيوت أهله، وقد انتقمت منها براميل السماء وصواريخ الأرض، بينما الإعلام يزيد في صنع غربته، ويؤجج نيران الانتقام والثأرية، ببث الأخبار المصنعة بحرفيةٍ عاليةٍ والمشاهد المضللة التي تبعد شبح الحقيقة، وتستبدله بحقيقة الوهم، وتتحفنا بخرائط الاشتباكات التي تحوّل حلب إلى رقعة مضيئة، تتنقل فوقها البيادق بين كرّ وفرّ، بينما حلب الملكة مرهونة لقدر النيران والحرب مرتين، مرّة لنيران النظام وحلفائه، وأخرى لنيران الفصائل المسلحة وداعميها ومموليها ومسهّلي طرقها. لا أحد يعرف حقيقة ما يجري في حلب غير حقيقة دمار ركنٍ أساسيٍّ من أركان وطننا.
في الوقت نفسه، تسعى الدول الفاعلة والمؤثرة والمحرّكة للحرب السورية، إلى ترتيب أمورها، وتحديد أولوياتها، وصياغة برامجها واستراتيجياتها، منطلقة من قاعدة رئيسة هي مصالحها. موسكو وأنقرة، عدوّتي الأمس، تتصافحان وتتبادلان الأنخاب، وتعقدان الصفقات التجارية والمعاهدات الاقتصادية، وتسعيان إلى إنعاش ما جمّدته المناوشات بينهما خلال الحرب السورية على سورية.
تركيا وطهران تطويان مسافة الأميال المؤلّفة بينهما، والصراعات القديمة الحديثة، وتلتقيان على مصالح لا بدّ من أن تتم دوزنتها على إيقاع الحرب السورية، والمعارك لا تهدأ، ومعركة حلب التي أطلقوا عليها المعركة الكبرى نراها تكبر، لكنها لن تصبح كبرى، إلاّ بقرار من الحاكمين بأمرهم على رقاب السوريين، الذين ما زالوا ينتظرون من الشعب أن يعترف بتمثيلهم له ولرغباته وأمانيه، أو أن يبقى على يقينه بالشهادة من أجل الوطن، بينما الوطن هو الضحية الكبرى.
ستبقى الأسلحة تتدفق إلى سورية، مشروعة وغير مشروعة، وسيبقى المقاتلون يدخلون أراضيها تحت نور الشمس أم تسلّلاً، لا فرق، وستبقى آلة الحرب الجبارة تدور وتطحن حياتنا وتاريخنا وأوابدنا وحاضرنا، وستتابع المنابر الإعلامية في تضليلها وتأجيجها نار الفتنة، حتى الرمق الأخير لحلم ثار من أجله شباب سورية فانقضت عليه النيات سالبة إياه حلمه وحياته. لم يمنح الشباب السوري فرصته في أن يصنع مصيره، واستبدلت سورية المنتهكة المشرذمة المنهارة بسورية الحلم.
سورية تدفع بقسوة من استبداد إلى استبداد أفظع، حتى لو بقيت كما هي، ولم تُقسّم. كيف لا يكون التدين المتطرف بديلاً والعنف لم يترك مساحة خضراء في النفوس والأرض؟ كيف يمكن ألاّ تستعر الأصوليات، وقد صار الدين والطائفة والمذهب الملاذ الروحي الوحيد للنفوس المأزومة المستباحة المعذبة؟ أي حلمٍ وأية ديمقراطية ودولة حديثة يمكن انتظارها بعد الآن؟
كل يوم إضافي في عمر الجنون السوري يدفع إمكانية الحل بعيداً. كل يوم في عمر الحرب وكل إطالة في أمد المعارك هو قضاء على القليل مما بقي من إمكانية أن يكون الحل سورياً. لو اشتغل المعارضون سياسة منذ البداية، هل كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه؟ ها هم من عادوهم سنواتٍ بعمر الخراب السوري، بحجة عدم الوقوف إلى جانب الشعب، بل والمساندة في قتله، يصافحون حلفاءهم ممن باعوهم وعوداً وأحلاماً، بل ووعدوهم كما يعد الكبار أطفالاً متطلبين، وراح أولئك الأطفال المتطلبون يكرّرون الوعود التي تلقوها من على المنابر بأن الأزمة في نهايتها، وأن النظام ساقط خلال شهرين. كان هذا الوعد قبل خمس سنوات، حينها لم يكن الوطن قد سقط بعد.
صحيح أن السياسة في أبسط تعريف هي “فن الممكن”. لكن، عندما يتوفر الحد الأدنى من الموهبة أولاً، والقدرة على التعلم واكتساب الخبرات ثانياً، وإذا توفر هذان الشرطان يبقى أمر جوهري: الإيمان بالوطن والحرص عليه، من لم يتعلم خلال خمس سنواتٍ من النزيف السوري والتجارب السورية الكثيفة، يستحق الرسوب بجدارةٍ، وبجدارةٍ أكثر يستحق الحرمان من فرص أن يكون “راسباً ويعيد”.
العربي الجديد – سوسن جميل حسن