لا حاجة إلى التدقيق كثيراً وبعمق في حروب “داعش” المتعددة، وفي ما يسمى “الحرب على الإرهاب” لطرح مئات الأسئلة عن الأهداف الحقيقية والأساليب والوسائل والنتائج التي يراد تحقيقها من وراء التحالف الدولي وغاراته التي تشبه النزهات في ما يعلن عن ضرب تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في العراق وسورية وامتداداته في العالم.
هذه الحرب تكمل عامها الأول من دون أن نلحظ متغيرات على أرض المعركة أو أن نتفاءل بقرب الإعلان عن حسم سريع ينهي حالة القلق وأجواء الرعب التي تسود المنطقة والعالم من الجرائم الرهيبة التي ترتكب في حق البشر والحجر والتراث والحضارة والماضي والحاضر والمستقبل. حتى المؤشرات تبدو غائبة عن رسم معالم طريق تدل على قرب القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، أو على الأقل إضعاف “داعش” وكسر شوكتها والتمهيد للمرحلة النهائية.
كل ما جرى حتى الآن مجرد إعطاء مسكنات وإجراء عمليات جانبية محدودة وضعيفة المفعول والنتائج، علماً أن كل التوقعات والتحليلات كانت تجزم بأن العملية تحتاج إلى وقت طويل (سنوات عدة بحسب الخبراء العسكريين)، من دون أن نعرف سر هذا التأخير. كما أن معظم هؤلاء الخبراء والمحللين أكدوا أن الأمل بحسم هذه الحرب عن طريق الغارات الجوية ضئيل، وأنه لا بد في النهاية من هجوم بري ساحق لاجتثاث قواعد “داعش” من جذورها، وهذا يتطلب وقتاً أطول ويكلف ثمناً باهظاً. ولم يعلن بعد إن كانت عملية الكوماندوس الأميركية في شرق سورية التي قتل فيها “أبو سياف”، أحد قادة “داعش” الرئيسيين و٤٠ من عناصره تشكل بداية جس نبض للإعداد للعملية (أو العمليات) البرية، وخصوصاً بعد تمدد “داعش” إلى عروس الصحراء تدمر… وما بعدها.
بانتظار جلاء الأمور، ليس في الأفق سوى مؤشرات سلبية وأقوال غامضة وأفعال مريبة توحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، وأن ما يخطط له أكبر بكثير من خطر “داعش” وأبعد مما يتوقعه العرب وما يحتاج إليه العراقيون والسوريون للحفاظ على وحدة بلادهم ومنع مخططات التقسيم والتفتيت. فالريبة المضاعفة تستند إلى وقائع وحوادث ونتائج تؤدي كلها إلى طرح تساؤلات كثيرة لا بد من الإشارة إليها في نقاط محددة، من بينها:
* التباطؤ الشديد في العمليات وتضاؤل حجم وفاعلية الغارات مع مرور الزمن يدفع إلى الشك بجدولها وأهدافها والشعور بأن من يقوم بها يقدم عليها “من غير نفس” لرفع العتب، وأن من يوجه لم يدرك بعد أن الخطر يدق بابه وأنه يتسلل إلى عقر دار معظم الدول وبات يشكل معضلة حقيقية يدفع ثمنها العالم كله من أمنه واستقراره واقتصاده.
* التركيز على زيادة خطر “داعش”، وعدم المس بمواقعه الرئيسية وأماكن تمركزه في الموصل والرقة ودير الزور، فقد لعبت الدعايات الإعلامية الموجهة (البروباغندا) في البداية ولعدة أشهر على عين العرب (كوباني)، وكأن كل المعركة محصورة في هذه البلدة ذات الغالبية الكردية: قصف جوي يومي ودمار شامل ومعارك شوارع ضارية بين البيشمركة ومقاتلين أكراد وجحافل “داعش”، وسط تساؤلات عن الخطوات التالية، فيما يجري تركيز الأنظار على المناطق الكردية فقط من دون المناطق السنية والمسيحية والإيزيدية المحتلة التي تعاني الأمرّين من بطش “داعش” وإعداماته وأعماله اللاإنسانية.
فكيف يمكن تفسير تزامن هذه الممارسات مع إقرار الكونغرس الأميركي قانوناً يقضي بالتعامل مع العراق بسياسة الشرعية والقانون، أي مع ثلاثة أطراف ومناطق سنية وشيعية وكردية، بما في ذلك بيع السلاح والتدريب بالمفرق والتعامل المباشر مع الجهات النافذة فيها على رغم إعلان الإدارة الأميركية عدم أهمية هذا الإجراء الذي أثار الكثير من الشكوك والريبة.
وزاد الطين بلة ما أعلنه رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني، أن الاستقلال صار أمراً واقعاً، وأن الإعلان عنه سيتم قريباً، مؤكداً العودة إلى الأوضاع السابقة وعدم التراجع عن قرار الانفصال، مع التركيز على اهتمامه بالحوار لا بالقوة العسكرية.
* وهنا أيضاً يبرز تساؤل عن موقف الإدارة الأميركية التي عودتنا على الأقوال، ثم القيام بأفعال مناقضة لها بعدما أعلنت أنها لا تؤيد ما أعلنه بارزاني، ثم مارست سياسات توحي بالعكس. وإلى ذلك، يُطرح سؤال آخر عن مواقف الأطراف الشيعية من هذا الطرح المؤسف الذي يهدد وحدة العراق. فهل ستقاومه أو تسكت عنه أم أنها سترضى به وتهيئ لإعلان مماثل، وتترك المناطق السنية لتدبر نفسها بنفسها بعد اقتطاع مناطق الثروات النفطية وقطع أوصالها؟
أما السؤال الأهم، فيركز على دور تركيا وموقفها الواضح. فهل سترضى بالنصيب وتسهل قيام دولة كردية في خاصرتها الرخوة؟ أم أنها ستمنع قيامها بأي ثمن، حتى لو اضطرت إلى شن حرب عليها ستكلفها الكثير؟ ثم ماذا عن أكراد تركيا؟ هل سيتخذون خطوة مماثلة بالانضمام إلى كردستان العراق؟ أم أنهم سيعلنون دولة كردستان سورية بعد سنوات من التحضير والإعداد والتسلح، مدعمة بالثروات النفطية والمائية والزراعية الغنية التي تدر البلايين ويتميز بها شمال سورية المعروف تاريخياً باسم “أهراءات الشرق”، مثله مثل شمال العراق.
هذه التساؤلات تؤدي إلى بيت القصيد، وهو موقف الحكومة المركزية في بغداد، ومدى قدرتها على مقاومة الطرح وجديتها في الحفاظ على وحدة العراق، علماً أنها أخذت منذ بداية الغزو الأميركي للعراق إلى ما بعد الانسحاب بعداً طائفياً لا يمكن إخفاء صبغته المذهبية الفاضحة المحسوبة عليها.
وهنا أيضاً تثار الريبة في غض الطرف عن ممارسات ما يسمى “الحشد الشعبي” عند المشاركة في الحرب على “داعش”، وارتكابه انتهاكات فاضحة ضد المناطق السنية وسكانها وعمليات تطهير عرقي ومذهبي شملت القتل وإحراق المنازل والتهجير والعمل على تغيير البنية السكانية بإسكان فئات موالية في بيوت السكان المنكوبين.
* تزامن هذه الانتهاكات مع قرار تشكيل ما يسمى “الحرس الوطني” وتسليح العشائر السنية بضغط أميركي للتخفيف من نقمتها على ممارسات الحكومة والميليشيات الموالية لها، وإقناعها بعدم جدوى التعاطف مع “داعش” وحملها على المشاركة في الحرب عليها والدفاع عن مناطقها بعد تطمين السكان بتأمين الحماية ومنع الانتهاكات وردع المرتكبين وملاحقة أي مسؤول عنها، مهما كانت قوته وانتماءاته.
* أما التساؤل المرتبط بهذه المسألة، فيتعلق بدور إيران وأهدافها البعيدة المدى وموقفها الفعلي من قضية تقسيم العراق بعد السماح لها بالمشاركة في الحرب على “داعش”. فهل ستمضي في تبني هذا الطرح على رغم أخطاره على كيانها ووحدتها في ضوء انتفاضات المناطق السنية والكردية؟ أم أنها تفضل استمرار الوضع القائم، على هشاشته، والهيمنة عليه كمرحلة تفضي إلى إحياء أحلام الامبراطورية الفارسية وعاصمتها بغداد، كما صرح عدد من القيادات الإيرانية الدينية والعسكرية.
* أما التساؤلات عن دور “داعش” وأهدافه السرية، فتحتاج إلى مقال مسهب. لأنه نجح في أمور كثيرة تصب في خانة التقسيم، بدءاً من الإساءة إلى الإسلام، دين الوسطية والاعتدال والرحمة والتسامح، إلى تدمير البنى التحتية العراقية، ومعها الحجر والبشر وإقامة أحكام ما أنزل الله بها من سلطان، فيما يترك التنظيم ليسرح ويمرح ويتاجر بالنفط والغاز ويدمر الآثار ويسرق ما خف وزنه وغلا ثمنه ليجني منه الملايين ويبني جداراً حول الموصل ويثير الأحقاد الدينية والكراهية التي تطاول السنّة قبل غيرهم، ويعدم المئات منهم من دون رادع ديني أو أخلاقي، فيما يتشدق رعاة الحرب على الإرهاب بتقارير الغارات اليومية التي تقدر بالآلاف من دون أن تتمكن من كسر شوكة الإرهاب، بل زادته قوة وأمدته بالمبررات للتوسع وكسب التعاطف.
ولو أردنا المضي في طرح التساؤلات لما انتهينا، فالقائمة طويلة لكن هذه العينات تؤكد ما نذهب إليه من التحذير من كل هذه المؤشرات التي تثير الريبة والقلق ولا تطاول العراق وسورية فحسب، بل تمتد لتشمل المنطقة العربية كلها. فما يكشف اليوم من غايات خبيثة يتطلب موقفاً موحداً وحاسماً قبل فوات الأوان حتى لا تكر سبحة التقسيم والتفتيت.
عرفان نظام الدين – الحياة