اللغة المتفردة، واللغة الأجمل واللغة الأصعب واللغة الأحلى، ولغة أهل الجنة وأهل الإيمان وأهل الحساب ولغة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، في حياته وإسرائه، ولغة اللغات، وإلى ما هنالك أيضا مما يضيفه جهابذة النحو والصرف واللغة من مفردات، لم تعد مستعملة يتفاخرون بها وببعدها عن القارئ وصعوبة شرحها.
ويقولون للأسد مئة اسم وللكلب ألف، واختلف الفقهاء حول هذه المسألة التي سوف تحرر لغتنا من قيد تخلفنا، وكأننا نحاول أن ندافع عن متهم مذنب، بأن نزينه بهذه العبارات الرنانة، فكل محام يحاول أن يضيف صفة البراءة والعذوبة والرقة والسماحة على وجه موكله، مذنباً أو غير ذلك، ولكن هو موضع اتهام وشك.
فهل لغتنا موضع اتهام وشك؟ فلا بد أن نعود لنعرف ما هي اللغة العربية؟
هي إحدى اللغات السامية التي يتكلم بها العرب والقليل من غيرهم، وتعتبر اللغة الرسمية لسبع وعشرين دولة، لغة لها طابع ديني إسلامي كونها لغة كتاب هذه الديانة القرآن ونبيها محمد (ص).
ماذا تعني لغة سامية هل هي من السمو أو السماء أو ماذا؟
يعني أنها اشتقت مباشرة، دون فروع وأصول، من اللغة الأم، الأسيوأفريقية، أي بمعنى أقرب وأوضح كان سكان هذه المعمورة، بلسان واحد ثم تشتتوا في أصقاع الأرض لأحداث وأسباب ما جرت، فتوسعت لغتهم لاحتياجهم لمفردات جديدة، تغطي المفاهيم والموجودات الجديدة في عالمهم الجديد.
فانبثق عن اللغة السامية الأم، عشرون لغة اندثر معظمها وتحلل، وذابت في لغات أخرى، وبقيت اللغة العربية لأنها لغة مولِّدة محدِّثة، تحدث نفسها بنفسها، فحافظت على كينونتها وألفاظها وجذورها من الاندثار، وأيضا استطاعت توليد وتحديث وتعريب جذور جديدة، لتواكب التقدم الحضاري للإنسانية.
كيف بقيت من اللغة السامية؟
من بين عشرين لغة سامية اندثرت، بقيت اللغة العبرية التي يتحدث بها الشعب اليهودي إلى يومنا هذا, وليس بها تماما بل على بقاياها وجذور قديمة ممتدة إليها, وحافظت أيضا لغتنا العربية على هويتها من الضياع.
ومن أهم عوامل المحافظة كان الجانب الديني, فقد اتخذ الله على نفسه العهد بحفظ كلامه في القرآن, والقرآن ملفوظ مكتوب بلسان عربي، فحفظ هذا اللسان بحفاظ الهوية الإسلامية، وأيضا ساعد اللغة على النمو والتطور والانتشار، فكل يوم هناك دراسات وتحليلات وشروحات جديدة في علوم القرآن، وساهم أيضا الأدب العربي القديم في حفظ اللغة، لما له من أثر ووقع في السمع والفؤاد، وساعد على حفظها المرحلة التي كانت تتناقل الآداب مشافهة بين الناس، أي عصر ما قبل التدوين والكتابة، فهذا ما سهل في استخدام اللغة والمفردة التي اندثرت.
فللمثال، مازال الخطباء يستشهدون بخطبة قس بن ساعدة الإيادي، التي تحدث في مطلعها في ثنائية الموت والحياة، فهذه الخطبة التي قيلت في البوادي العربية قبل عشرين قرنا، ما تزال كلماتها متداولة بين الناس ومحط استشهاد، وعلى سبيل مثال آخر، كلمة الأثافي وهي حجارة الموقد، ماتزال مستخدمة في المجتمع المدني، على الرغم من عدم حاجتهم لهذا الشيء في حياتهم اليومية، لكنها انتقلت المفردة مع الشعر القديم الذي خلدها وخلد غيرها.
إذاً استطاعت اللغة العربية حمْل علوم الدين واللاهوت والحكمة والأدب والتطور بها منذ القدم إلى يومنا هذا فهل تستطيع حمل العلوم؟!
لم تكن هذه التساؤلات موضع شك أبدا, فمع اتساع رقعة الدولة الاسلامية التي وصلت إلى حدود الهند والسند وما وراء البحار, امتد معها اللسان العربي, وانعكس هذا الاتساع على اتساع أفق المعارف والعلوم، فافتتحت المكتبات في بغداد وقرطبة والأندلس وغيرها، وبرع علماء واستخدموا اللغة العربية في بحوثهم في مجالات شتى من الهندسة والرياضيات والفلك والكيمياء والحساب والجبر.
فالخوارزمي الذي أسس علم الخوارزميات، وتطور هذا العلم ليصير على شكل أجهزة إلكترونية نصب أعيننا وبين أيدينا، كان يستخدم اللغة العربية في أبحاثه، كما الإدريسي الذي وضع أولى مخططات الجغرافيا والأطالس والخرائط لهذا العالم الذي نعيش فيه، كانت أبحاثه في ذات اللغة وعلوم البصريات والطب والدم لدى ابن الهيثم وابن النفيس وغيرهم من العلماء، كانت اللغة العربية أداة لأبحاثهم وتفكيرهم وكتاباتهم وتدوينهم.
إذا اللغة هي أداة تفكير وتدوين ولفظ، تستخدم للتعبير والإخبار والتفكير في أشياء تحدث بها النفس البشرية، فهل لغتنا العربية هي المذنبة التي تحتاج منا هذه الرتوش والعبارات الرنانة التي لا داعي لها، أبدا أم نحن المذنبون أمام هذه اللغة؟
أيام كانت الدولة العباسية تحكم نصف العالم, كانت العربية هي لغة العلوم, فالأبحاث والدراسات الجديدة في شتى المعارف والفلسفات والعلوم يجب أن تدون بالعربية، لتأخذ الطابع العالمي في التصنيف المعرفي.
ولما سيطرت دول أخرى صارت لغاتها هي لغة العلوم، فلا يشفع للغة العربية قدمها وأزلها واستمراريتها وقداستها الدينية، بقدر ما يشفع لها أبناؤها.
فلا بد لنا من أن نعرف هويتنا بين الأمم الأخرى، لنعيد صياغة أدوات التفكير التي نمتلكها، ونحاول أن نكون في أنساق الأمم المتقدمة، لتعود اللغة العربية إلى واجهة اللغات، ونتخلص من هرج ومرج الهجين من اللغات الأخرى، لأننا في الحقيقة اضطررنا إلى هذا الهجين وسنضطر له دائما، حتى نعود كدولة متقدمة وقتها يعود لسان هذه الدولة ولغتها إلى مقدمة اللفات وواجهة الحضارة الإنسانية.
عادل الأحمد/ أدبيات