حازم نهار
استطاع السلطان سيف الدين قطز إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول في معركة “عين جالوت” بفلسطين في 3 أيلول/ سبتمبر 1260، وبعدها بخمسين يومًا، اغتيل في طريق عودته من دمشق إلى القاهرة على رأس جيشه المنتصر، وجلس على عرشه الظاهر بيبرس الذي يُعتقد أنه من دبّر اغتياله. كانت لحظة تاريخية متخمة بتعدّد الولاءات والانقسامات، وبصناعة المؤامرات، والتحالفات المتغيرة داخليًا، وبالتناقضات والصراعات على المصالح، وعلى مستقبل المنطقة خارجيًا، وحافلة بالآلام والأحزان والتحولات التي طالت البشر، بحكم الخوف والقلق والآفاق المسدودة أو المفتوحة على احتمالات عديدة.
استلهم محفوظ عبدالرحمن هذه اللحظة من تاريخ المنطقة، وبنى عليها دراما تاريخية تلفزيونية عظيمة، “الكتابة على لحم يحترق”؛ مسلسل يتناول وقائع الغزوات المغولية والصليبية على المنطقة، وأخرجه عباس أرناؤوط، وشارك في بطولته عبدالله غيث، حمدي غيث، سميحة أيوب، محسنة توفيق، أمينة رزق، وغيرهم، وقد عرض في عام 1987.
تعيش المنطقة اليوم، بخاصة سورية، لحظة تشبه في تعقيداتها وصراعاتها تلك اللحظة؛ التمزق والانقسام، تصاعد الكراهية والعداوة، حرب الجميع ضد الجميع، العالم كله في سورية، والموت منتشر في كل مكان، من دون اتضاح أي آفاق سيرسو إليها المستقبل. منذ أعوام قليلة، ونحن نعيش في قلب الموت يوميًا، لا أحد بعيد من الموت، لا في الداخل، ولا في الخارج، والموت زارنا بأشكال متنوعة، وصنّاع الموت مستمرون في بحثهم عن طرق جديدة للموت لم نختبرها بعد، ويبدو أن حرائق الساحل السوري لن تكون الحلقة الأخيرة في مسلسل الموت السوري.
لكن لحم من هذا الذي يحترق في رائعة محفوظ عبدالرحمن؟ إنه لحم البشر الذين عانوا وتألموا من تبعات ذلك الزمان، ولحم الذين ما زالوا يعانون ويتألمون في الحاضر، على اعتبار أنه صنع هذه الدراما التاريخية بعينين اثنتين؛ الأولى تقرأ التاريخ، والثانية تستكشف الواقع. إنه لحمنا، والكتابة عليه تؤثر فعلًا؛ قد تجرح، وقد تشفي.
هذه الصورة المفجعة في الواقع تجعل الكتابة كلها فعلًا يجري على لحم الناس الذي يحترق. اسألوا المحروقين في لحظات ألمهم، ماذا تريدون أن نكتب على لحمكم؟ يمكن أن تكون إجاباتهم مُلهِمة قبل البدء بالكتابة. تخيلوا لحمًا يحترق، وأنتم تكتبون عليه، فماذا ستكتبون؟ يمكننا أن نكتب ونزيد الاحتراق احتراقًا، والألم ألمًا، ويمكننا أن نكتب ما يُبلسم ويُلهم. هما طريقتان للكتابة؛ طريقة تعكس الموت في داخلنا، وأخرى تعكس عشقنا للحياة. طريقة ننتمي فيها إلى صناع الموت، وأخرى ننتمي فيها إلى صناع الحياة.
إذا كنا قد عجزنا في السياسة، وإذا كان الآخرون، في الداخل والخارج، قد سلبوا حياتنا ومستقبلنا، إلى حين، فهل نساعدهم ونذهب في الطرق التي يريدون منا أن نمشي فيها، هل أصبحت لعبة الموت هوايتنا؟ ألا يمكن لنا إعلان التمرد والعصيان ضدّ صناع الموت أنفسهم، فلا نسير في ترويج لعبتهم أو استلهامها أو استحضارها أو تمثيلها؟ مخيفٌ جدًا أن نتحول، جهلًا أو قصدًا أو عجزًا أو كرهًا، إلى مُشعِلي حرائق، ولا يوجد من يطفئ هذه الحرائق!
في وقت اشتعال الحرائق، ينبغي لكل سوري يستطيع أن يكتب سطرًا أن يقتنع أنه يكتب على لحم يحترق. وهنا تغدو الكتابة فعلًا من أفعال الملائكة أو الشياطين؛ إن الكتابة في وقت اشتعال الحرائق مسؤولية كبرى، والكتابة على اللحم الذي يحترق مسؤولية دقيقة وخطرة، كل حرف نخطه يمكن أن يجلب مزيدًا من الاحتراق أو يكون لحظة من لحظات الشفاء، ولا ينفع هنا التجريب، ولا فشة الخلق، ولا الانفعال. عندما يحترق لحمنا في كل لحظة، نحن مدعوون إلى أن نكون أكثر تبصرًا، وأقل وثوقًا بأحرفنا، وأكثر ترددًا قبل أن نكتب. الكتابة في وقت الحريق يلزمها الكثير من التأني، والكثير من النظر إلى الأمام، والكثير من الإيمان بقدرتنا على الخلق والخروج من الحرائق كلها في نهاية المطاف.
كنت أقول لمن يسألني عن الكتابة: السؤال الوحيد الذي أسأله لنفسي قبل أن أنشر ما أكتبه هو: هل سأندم على ما كتبت بعد عشر سنوات، مثلًا؟ فإن كان جوابي بالنفي أنشره. فليخرج كل منا للحظة، بقدر استطاعته، من انفعالاته وعواطفه الآنية، قبل أن ينشر كلماته، خاصة في وقت الحريق؛ الوقت الذي تظهر فيه آثار الكتابة مباشرة على اللحم الذي يحترق، فتؤلم أو تشفي.
ليست غاباتنا السورية هي التي تحترق وتتحول إلى كوم من الرماد فحسب، إنه لحمنا الذي يحترق. لحمنا الذي يحترق في الساحل وإدلب ودرعا والسويداء والقامشلي وعامودا، لحمنا الذي يحترق في كل الجغرافيا السورية، في كل الوطن السوري، فأي رسائل نريد كتابتها على لحمنا الذي يحترق؟ يمكننا اليوم، ونحن في أوج احتراق لحمنا، أن نكتب، ببساطة، ما يشعل الحرائق بدلًا من إطفائها، ويمكننا أن نكتب ونحن ننظر إلى المستقبل، بعد انتهاء الحرائق. الطريقة الأولى تُعمِّق هزيمتنا وتكرِّسها، فيما الثانية تترك الأبواب مشرعة نحو أمل ما.
في وقت الحريق، ينبغي لكل سوري، عندما يتحدث أو يكتب، أن يفعل ذلك بروحية المسؤول عن بلد بأكملها، وعن أرواح جميع السوريين، ومستقبلهم. إذا كانت سورية عظيمة حقًا، فعلى أبنائها أن يكونوا عظماء أيضًا، وأول العظمة الشعور بالمسؤولية عن حياة أبناء البلد جميعهم، في الداخل والخارج، وفي كل لحظة.
تشاؤمنا المبني على تحليلنا السياسي العقلاني شيء، وقطع باب الأمل شيء آخر؛ الجمع بين الرؤية الواقعية العقلانية والأمل/الهدف هو دليل عمل المهجوسين بوطن حر وكريم. فالرصاصة التي انطلقت باتجاه صدورنا، ونعلم سرعتها ومسارها، نعلم في الوقت نفسه أن هناك لحظات زمنية تفصلها عنا. هذه اللحظات مليئة بالأمل والحياة، وتحتاج دائمًا إلى من يستغلها. اسألوا الأطباء، فليس نادرًا شفاء المرضى من حتفٍ كان مؤكدًا.
المدن 11 أكتوبر 2020