د. عماد أحمد
بعد أكثر من خمس سنوات على الحرب الكارثية في سورية، وعمليات القتل الممنهجة التي فاقت حد الإجرام المستباح في المدن والقرى السورية، باتت الأزمة السورية بين الوعود المزيفة بالحل والفشل الأممي في إيجاد تسوية يقررها الجميع إلا السوريين. ومن المفارقات العجيبة، أن هذا القتل وهذه الجرائم ضد الإنسانية، تزداد بعد كل فشل مخزي لأعلى سلطة دولية وهو مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، المخول أساسا بالحفاظ على السلم والأمن الإقليمي والدولي، وفشله الذريع في إصدار قرار دولي ملزم يهدف لحماية السكان المدنيين من ويلات الحرب وفقا لميثاق الأمم المتحدة وإتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 م. والبروتوكولات المرفقة به لعام 1977 م.
لم تعد الأزمة السورية إقليمية، بل أصبحت أزمة دولية بإمتياز بسبب التناقضات الدولية، وخاصة الروسية – الأمريكية. لقد فشلت جميع الحلول والمبادرات، والوساطات الدولية في إيجاد ألية قانونية – دولية لإحتواء هذه الأزمة منذ مراحلها الأولى في عام 2011 م. وفي الوقت الراهن، تتجه أنظار دول العالم برمته، ووسط حراك دبلوماسي نشط على المستويين الإقليمي والدولي تترأسه فرنسا، وبريطانيا، وتركيا ودول أخرا، بهدف إنقاذ ما تبقى من سورية بعد الدمار والقتل الذي أصبح لا يخفى على أحد. وبناءا على بيانات الأمم المتحدة ذاتها، فإن الأزمة السورية أصبحت من أخطر الأزمات التي يواجهها المجتمع الدولي في العصر الحديث.
وبرأي الكثير من الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، فإن إنهاء الصراع السورية هدفه أولا الحفاظ على الأمن والإستقرار ليس في سورية والمنطقة فحسب، بل في جميع دول العالم، وذلك نظرا لأن إستمرار الأزمة السورية بصيغتها الراهنة، والمشاكل التي ولدت من رحم هذه الأزمة، كظهور جماعات متطرفة، مثل تنظيم داعش وغيره من الميليشيات الإيرانية والعراقية واللبنانية، سيساهم في تأسيس بيئة خصبة للإرهاب الدولي يكون من الصعب مستقبلا القضاء عليه. إذ يشهد العالم بأجمعه كوارث الإرهاب والمجموعات المتطرفة الأخرى التي باتت في داخل كثير من الدول تشكل دويلة قوية ضمن الدولة الضعيفة كما يحدث في لبنان مثلا، والعراق، واليمن وغيرهما.
فمن رحم الأزمة السورية، ظهرت أزمات دولية جديدة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية حول التسوية السورية، وبين روسيا والمجتمع الدولي، وكذلك الأمر ذاته بين إيران والمملكة العربية السعودية. إذ لا يخفى على أحد دور كل من هذه الدول ومواقفها تجاه إنهاء الصراع في سورية، غير أن الحل برأي كل منهم يختلف عن الأخر. فروسيا ترى أن الحل يكون بوجود حكومة بشار الأسد في هرم السلطة مع إدخال كيانات من المعارضة إلى هذه الحكومة، بينما ترى أكثرية دولية مع أكثرية من الشعب السوري تطالب برحيل الأسد عن السلطة وتشكيل هيئة إنتقالية تحكم سورية وفقا لمبادرة جنيف التي تم الإتفاق على مبادئها بين الأطراف المعنية. لا بد أن يكون الحل سوريا – سوريا ويخدم مصلحة السوريين أولا. إذ أنه من السخرية أن نرى دولا بعينها كإيران تعتبر الساحة السورية جزءا لا يتجزأ من أراضيها وتتصرف بصفتها الأمر الناهي إلى جانب حلفائها من منظمات وميليشيات مأجورة تأتمر بأوامرها مباشرة.
لو أشرنا إلى إستخدام روسيا للفيتو في بدايات الأزمة السورية، لشهدنا أن الولايات المتحدة تحديدا عمدت إلى إستخدام الحيلة الدبلوماسية في صياغة مشروع قرار فيه الكثير من الغموض الدبلوماسي والقانوني، ما دفع الطرف الروسي برأي إلى إستخدام حق النقض (الفيتو) نظرا لأنه شعر كأن الطرف الأمريكي يخدعه كما فعل في ليبيا. وساهم هذا أكثر إعتماد المعارضة السورية الكلي على الدور الأمريكي وإحتكار الحل السوري ليكون أمريكيا وبعيدا عن الطرف الروسي. هذا الأمر جعل من الصعب التوصل لإيجاد فرصة للحل الدولي في المعادلة السورية. إذ رأى الروسي أن تلك الخطوة هي عامل إستفزاز له. وهذا ما يفسره حالة الجمود وعدم الإستقرار في التوافق الروسي – الأمريكي اليوم. إذ تخشى موسكو من وصول المعارضة السورية وتشكيل حكومة سورية جديدة تستثني النظام السوري الحالي والتي برأي الروس سيكون مصير الوجود العسكري الروسي الذي كان قائما منذ زمن الإتحاد السوفياتي في سورية مجهولا.
وعلى الرغم من أن حسابات التفاوض في الأزمة السورية بين الدول الراعية للحل في سورية وهما الولايات المتحدة و روسيا التي تتفاوض علنا بإسم الحكومة السورية، فإن التوصل إلى حلول ممكنة في ظل التناقضات بين هذه الدول الراعية يكون بعيدا عن تحقيق هذا الهدف لإعتبارات عسكرية وإستراتيجية لكلا الدولتيتن، فروسيا ترى أنها تعود إلى الساحة الدولية وسعيها نحو فرض نفسها رقما دوليا صعبا في العالم على غرار النفوذ الذي كان يملكه الإتحاد السوفياتي، بينما الولايات المتحدة ترى أن إستراتيجيتها الحالية بوجود الرئيس أوباما تكمن في عدم دخولها حربا جديدة في المنطقة. إذ تعتقد روسيا أن الولايات المتحدة لم تحقق أي إختراق في مجال فصل المعارضة الجيدة والمعتدلة عن الإرهابيين، وكانت دائما تضع الكرة في ملعب الأمريكيين للقيام بهذا الدور.
أما اليوم، وعلى أمل الحل العاجل لملايين السوريين، ولا سيما أولئك السوريين العالقين تحت وطأة الحرب في المناطق المحاصرة، فإن المجتمع الدولي عاجز تماما حتى في إيصال حتى أبسط المعونات الإنسانية للتخفيف من ويلات الحرب الكارثية عليهم، وهذا ينطبق تماما على جميع المناطق المحاصرة بلا إستثناء. وبالإضافة إلى هذا، فإن السوريين اليوم يعانون من القصف اليومي المكثف، وكذلك من طغيان وحشي وتشدد متعصب من قبل أطراف في المعارضات المختلفة، الأمر الذي من شأنه أن ينذر بعواقب تصل إلى الكارثة. إذ أصبحت تعرف كلمة سورية اليوم بمكان الموت الرهيب، والدمار والقتل الممنهج.
من وجهة النظر القانونية، فإنه يمكن لأي دولة مستقلة إنشاء محاكم خاصة لإدانة مجرمي الحرب الذين قاموا بإرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وذلك على غرار ما قامت به بلجيكا بإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة وزير الحرب الإسرائيلي في ذلك الوقت أريل شارون على الجرائم التي إرتكبت في مجزرتي صبرا وشاتيلا في لبنان في شهر أيلول \ سبتمبر من العام 1982 م. بحق اللاجئين الفلسطينيين. والهدف من هذا النوع من المحاكم هو جمع الأدلة التي يمكن للمحكمة الجنائية الدولية مستقبلا أن تستند إلى الوثائق والشهادات المقدمة والإطلاع على حجم الجرائم المرتكبة ضد الضحايا في سورية.
الوقت يمضي سريعا، والسوريون اليوم يعيشون بين نار الألم والأمل، إذ أن أفق الحل تبدو معدومة تماما. ومن الخطأ الإعتقاد بأن إستمرار القصف والقتل اليومي والعجز الدولي سيؤدي إلى إنهاء الحرب بأي طريقة ما بدون محاسبة المسؤولين عن تلك الجرائم. إذ يعتقد الكثير من السوريين اليوم وغيرهم الكثير من شعوب العالم الحر، أن صراع الأمم المتحدة مع معاناة الشعب السورية وأزمته أن القانون الدولي في سورية قد مات أو في حكم الميت سريريا، وذلك نظرا لغياب الرؤيا والأمل في إيجاد ألية قانونية – دولية تنهي مأساته وعذابه. ولا سيما أن أطراف الصراع يرون أنه بإستطاعتهم أن يصلوا إلى مائدة التفاوض بعدما تحقق سبطانة مدفعهم نصرا لهم على الأرض بدون الأخذ بالإعتبار إلى المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ.
وبتقديري، فإن أطراف النزاع لا تعطي أي إهتمام لحالة المدنيين، النظام والمعارضة على حد سواء، فالمعارضة مثلا تدخل المناطق المأهولة بالسكان المدنيين العزل، ويقوم النظام بقصف مكثف لتلك المناطق والمدن، هذا الأمر يتكرر منذ بداية الأزمة. أي أنه لا يعير أيا من النظام والمعارضة للمدننين أي إهتمام ولا بأمنهم أو الحفاظ على سلامتهم من القصف الذي يتعرضون له. ودخول المعارضة التي تحمل شعارات دينية، عَقد من فرص إيجاد حلول دولية فاعلة لمعالجة الأزمة، وذلك نظرا لأن بعض الدول التي شاركت في الحرب وإستخدمت الفيتو لأكثر من مرة بحجة وجود جماعات تسمي نفسها دينينة كداعش، والنصرة سابقا (جيش فتح الشام حاليا)، وأحرار الشام، وجند الأقصى وغيرهم الكثيرين.
الكثير من خبراء القانون الدولي يرون أن إحتكار الفيتو للدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن بحد ذاته أصبح يشكل تهديدا للأمن والسلم الإقليمي والدولي. إذ أن تمتع دولة صغيرة بعلاقات متينة مع إحدى الدول الدائمة العضوية في المجلس يعطيها الحصانة التامة من أي عقوبات دولية، وبإمكان هذه الدولة المحمية أن تضرب بعرض الحائط جميع قواعد وأحكام الشرعية الدولية بل وأكثر من ذلك، تشعر هذه الدولة بأنها فوق القانون الدولي.
لا بد من القول صراحة أن التناقضات الدولية للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن والمزاج السياسي لتلك الدول في إستخدام وإحتكار حق النقض (الفيتو) يضع المجتمع الدولي برمته على حافة الهاوية، وذلك لأن عدم التوصل لإرداة جادة لتسوية الحرب الكارثية في سورية، ربما يصل لهيبها إلى جميع الدول كبيرها وصغيرها، ولا سيما أنه في الأونة الأخيرة بدأنا نسمع عن بوادر حرب عالمية جديدة أو بأدنى تقدير حرب باردة من نوع جديد بين القوى العظمى بدأت شرارتها الأولى من سورية. أي أنه لإشعال حريق هائل، يكفي شرارة واحدة لذلك. والسؤال الذي يطرح نفسه الأن، وبعد سنوات الحرب السورية، هل إستمرار الحرب في سورية هو صراع على سورية أم على الشرق الأوسط برمته إنطلاقا من الأرض السورية؟