يحظى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على غير عادة الزعماء، بأوصاف تكاد لا تنحصر في الميدان السياسي والعسكري، لكن شخصيته، إذا وضعت محلّ الدراسة، تبتلع تلك الأوصاف وتخرق دائرة الإحاطة بها كل مرة.
منذ الوصول إلى الحياة الدنيا عام 1952، انفرد بوتين بصفة “البقاء حيًا”، بعدما خطف الموت حياة شقيقين له توفيا قبل ولادته، الأول بعد أشهر قليلة من الولادة، والثاني بداء “الخناق”، بسبب عدم توفّر المساعدات الطبية للعائلة، في مسقط رأسه “لينينغراد”، المحاصرة حينها بطوق الجيش الألماني “النازي”، أثناء الحرب العالمية الثانية.
لم يكن لوالدي بوتين البسيطين أن يتوقعا أنه سيصبح زعيمًا، يحمل كلّ هذه الألقاب وتحكي الأمم باسمه، شرقًا وغربًا، إلا أن ولادته في لينينغراد (المعروفة اليوم باسم المعروفة اليوم باسم سانت بطرسبرغ)، أكسبته إضافةً معنويةً كونها مهد الثورة الشيوعية.
من ليننغراد، انطلق بوتين، المتخرج حديثًا من كلية الحقوق، إلى معقل الخصم في ألمانيا الشرقية، التي خضعت لسيطرة السوفييت نهاية الحرب العالمية الثانية. وصل إليها بمهمة “موظفٍ في وكالة تاس الإخبارية”، ليعمل ضابطًا في أجهزة المخابرات بين عامي 1975 و1990.
ورغم طرده من ألمانيا الغربية لنشاطه “المخابراتي”، وحصوله على وسام لا يعدو كونه “ميدالية برونزية”، من نظيرتها، لكونه جاسوسًا من “المرتبة الثانية”، خالف بوتين التوقعات ليتحوّل من رجل المخابرات “المغمور”، وفق توصيف وولفغانغ بيرغوفر، رئيس بلدية دريسدن الألمانية في عهد النظام الشيوعي، إلى رئاسة المخابرات الروسية في تموز 1998.
لكن ماذا وراء التحول من “مغمور” إلى أعلى منصب استخباراتي، هل كانت المهمة سهلةً؟
في الوقت الذي كان بإمكان بوتين أن ينعم بحياةٍ مستقرة سهلة في ألمانيا الشرقية مع زوجته “لودميلا”، استغلّ نفوذ السوفييت ليكوّن علاقات وطيدة مع أجهزة المخابرات، كما حضر بوتين اجتماعات عديدةً بين السوفييت والألمان، أكسبته زخمًا ورؤية سياسيةً ومخابراتيةً لطريقة إدارة البلاد.
يدغدغ بوتين لقب “القيصر” بعد وصوله فجأة إلى رئاسة روسيا، التي أعاد لشعبها “هيبةً” فقدها بين الأمم بعد سقوط السوفييت، وهو يحارب اليوم ليعيد أمجاد الدولة القيصرية، التي توسعت شرقًا وغربًا وشنت حروبًا ضد العثمانيين والبولنديين والسويديين.
أيام الدولة القيصرية تمكّن الكاهن “راسبوتين” من النفوذ والتحكّم في مفاصل الدولة بصبغة دينية خالصة، لكن بوتين خالف “القيصرة” في ذلك، فهو يطوّع قرارات الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية لما يحلو له أن يفعل، بل تتجاوز الكنيسة ذلك فتربت بنعومة على كتف الوحش، واصفةً اقتحامه المستنقع السوري بـ “الحرب المقدسة”، وبوتين بـ “معجزة الرب”، بحسب وصف البطريرك كيريل، رئيس الكنيسة الروسية.
حتى أن بوتين، الشيوعي البعيد عن الديانة، ذهب أبعد من ذلك، فدافع نفسه عن الكنيسة معتبرًا أنها “شريكٌ طبيعي” للسلطة السياسية، مؤكدًا على ذلك، خلال فيلم نشرته الكنيسة، “في أصعب الأوقات التي مرّ بها تاريخنا، عاد شعبنا إلى جذوره، إلى الديانة المسيحية وإلى القيم الروحية”.
“أبو علي” هو وصفٌ آخر حمله التدخل في سوريا إلى بوتين، نسبةً إلى شخصية الضابط الموالي للنظام السوري المنحدر من الساحل، لكن بوتين ضرب بذلك عرض الحائط، ورغم أن قواته كبّلت المعارضة السورية في أكثر من منطقة، وأعادت زمام المبادرة إلى الأسد، إلا أنه يتدخل ساعة ما يريد وفي المكان الذي يراه مناسبًا، بعيدًا عن حسابات النظام السوري، كما حصل في ريف حلب الجنوبي والرقة قبل أشهر.
كما لا يستطيع أحدٌ التكهّن بموقف بوتين من ورقة الأسد، وإمكانية التخلي عنه من عدمها، وهو ما بدا حين استدعاه إلى الكريملين في لقاءٍ خارج البروتوكولات الرسمية، أو عندما قابل الأسد وزير دفاع الروس في قاعدة حميميم السورية، دون علمٍ مسبقٍ مع من سيجتمع.
أما نعته بـ “الدب الروسي”، المتباطئ ثقيل الحركة، فتخلص منه بوتين بالهرب إلى المناورة مع خصومه، فها هو يستقبل أردوغان، عدوّ الأمس، وصاحب “التعليمة” على الدولة السوفيتية، بإسقاط إحدى طائراتها على الحدود السورية- التركية.
ورغم التصعيد الذي بلغ أوجه بين البلدين بتجميد العلاقات الاقتصادية، فقد استقبل “الدب” جاره “السلطان” النادم على فعلته، وبالتحديد في قصر “الأباطرة” في بطرسبرغ، الذي شهد بعضًا من الخطط العسكرية الروسية ضد السلطنة العثمانية في عهد الصراعات بين الإمبراطوريتين.
ويبدو أن بوتين أتقن المناورة جيدًا وأحاط نفسه بسلوكيات عصية على الفهم، عندما رسم صورة الضيف الثقيل على صحون مأدبة غداء جمعت الغريمين.
في سبعينيات القرن الماضي، كتب نزار قباني قصيدة بعنوان “راسبوتين العربي”، جمع فيها متناقضات العصري والحجري، والمدني والهمجي، والوثني والصوفي، والمتناقض الأبدي، فهل يكون بوتين هو “الديكتاتور” الذي يجمع كل هذه المتناقضات؟
عمار زيادة – عنب بلدي