كانا يومين من قمة الزعماء الأوروبيين، برز فيهما رئيس الوزراء الإيطالي ماثيو رينزي كما لو أنه مايسترو. معظم القضايا المطروحة نوقشت بمبادرة وطلب منه، سواء وجهة الموقف الاستراتيجي حيال روسيا وتكريس نهج الصفقات مع دول العبور والمصدر بالنسبة للاجئين والمهاجرين. لم تكن مساهمته في النتيجة النهائية قليلة، إذ تَقدّم دولاً مترددة، ليقول بوضوح إن لا حكمة ولا مصلحة تبرر معاقبة روسيا بالنسبة لدورها السوري، لتخرج قرارات القمة بلهجة أقل خشونة بكثير مما كان مُعدّاً لها في الأساس. لكن مصادر رفيعة المستوى أكدت لـ “السفير” ان تلك التداعيات يحركها تغيّر حيال دمشق، يقوده بعض الاوروبيين تحديداً، مع أنه لم يصل إلى اعتبار التحول سمة رئيسية بعد.
إذا كان الناظم هو رينزي، لكن الأخبار كانت لدى المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل. كان لديها الكثير لتقوله حول الملف السوري الذي حضر أساسياً على طاولة الزعماء. جاءت إلى قمة بروكسل آتية للتوّ من لقاء مصغر جمعها مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ونظيره الروسي فلاديمير بوتين. كانت لحظة فرقة بالطبع، فهي المرة الاولى التي تستقبل بها العاصمة الالمانية الرئيس الروسي منذ أربع سنوات، سادها التوتر الشديد على إثر ضم موسكو شبه جزيرة القرم، مع انطلاق مواجهة عسكرية بين الحكومة الأوكرانية والانفصاليين المدعومين من روسيا.
ديبلوماسي أوروبي تحدّث لـ “السفير” مقدّماً قراءة وربطاً لافتين في هذا السياق. وفق رأيه، كان للسياسة الأوروبية دور مهم، وإن لم يظهر في الصدارة، لتحوّل سوريا إلى ملعب تنافس دولي، على الأقل الحرب بالوكالة في المستوى الدولي. تلك الحرب وفق شروحاته، كانت مرشحة لأن تحصل في بقعة أخرى: “كل المقدمات كانت تقول إن أوكرانيا في طريقها لأن تصبح ساحة مواجهة دولية، من جهة بين روسيا وأميركا، ثم ستجرّ بطبيعة الحال أوروبا”. حسم المانيا كان الفاعل الأساس في إيقاف ذلك السيناريو، عبر اجتراح صيغة “النورماندي” التي نجحت في استبعاد عامل التوتير الأميركي، قاصرة إطار مباحثات التسوية على أربع دول: المانيا، فرنسا، روسيا وأوكرانيا.
هناك ما يدعم بالفعل تلك القراءة، وهو نادر على كل حال نظراً لحساسية الموضوع الشديدة حينما يتعلق الأمر بالموقف من واشنطن.
خلال مرحلة توتر في بداية الأزمة الأوكرانية، تسرّب تسجيل صوتي لمحادثة شتائمية تجاه سياسة الاتحاد الاوروبي أطلقتها مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الاوروبية الآسيوية فيكتوريا نولاند. على إثر ذلك أطلق رئيس المجلس الأوروبي حينها هيرمان فان رومبوي تصريحاً لافتاً، تحت ضغط اللحظة، معتبراً أنه “كان من الأفضل لو بقي الأميركيون في بيوتهم” بالنسبة للصراع الاوكراني. في النهاية، بقيت واشنطن بعيدة بالفعل عبر صيغة “النورماندي”، لكنها لا تزال تمارس تأثيراً عبر مواقف الحكومة الاوكرانية، الملامة حتى من الأوروبيين بالتقاعس عن تطبيق اتفاق “مينسك” الذي جمّد الصراع الأوكراني.
تتابُع التواريخ يُقيمُ صلة أيضاً. فقط بعد أشهر قليلة من توقيع اتفاق “مينسك”، بدأت موسكو بنقل العتاد العسكري الثقيل إلى سوريا، لتبدأ بعدها حملتها العسكرية التي أحدثت تحولاً جوهرياً في ميزان القوى المتحكم بالصراع السوري. التحول كان أيضاً بمثابة تدشين لمرحلة جديدة، صار فيها الصراع دوليا بالمبدأ والمنتهى، تدير دفته تفاهمات واتفاقات واشنطن وموسكو.
لم يمكن استبعاد تلك المقدمات التأسيسية، طالما أن نقاش القمة الاوروبية دار حول التوجه الاستراتيجي حيال الجار الروسي القوي. زيادة في الربط، عُقدت القمة المصغرة في برلين بمناسبة اجتماع فريق “النورماندي”، فما أن غادر الرئيس الاوكراني حتى انتقل الزعماء الثلاثة الباقون للتداول في الملف السوري. لم يكن التداول في القشور على كل حال، والمفارقة أن من نقل ذلك لم يكن الاوروبيون، بل الرئيس الروسي.
أطلّ بوتين من برلين لينقل للصحافيين أنه إضافة لمناقشة المبادرات الإنسانية، تأكيد حسن النيات تجاه وقف إطلاق النار وشروط الهدنة الشاملة، جرى حديث مستفيض في المطروح سياسياً لسوريا. أوضح أنه نقل لنظيرَيْه أن “روسيا تقترح تكثيف الجهود لتطوير واعتماد دستور جديد، والذي على أساسه يمكن إجراء انتخابات تمهيدية، كما يمكن التوصل لاتفاق تمهيدي بين جميع الاطراف المتصارعة”، مضيفاً أن “هذا يجب أن يأتي من إشراك جميع الدول في المنطقة لاستخلاص هذه العملية”.
من داخل تلك الأجواء جاءت ميركل غير متفائلة، كما الرئيس الفرنسي. كانا الأعلى لهجة في انتقاد روسيا، ولولا إصرار رئيس الوزراء الايطالي لخرج بيان القمة أكثر قسوة على موسكو. اكتفى البيان المشترك لزعماء الاتحاد بإدانة روسيا كحليف للنظام مسؤولة بدورها عن “الفظائع” في حلب. مسودة البيان كانت تعرض بالتفصيل التلويح بالعقوبات، مثل دراسة إضافة قوائم سوداء جديدة تضم شخصيات وهيئات، كما كانت تعتبر ما يحصل في حلب “انتهاكاً للقانون الانساني الدولي”.
أما تلك الاستطرادات أصرّ رينزي على إزالتها، متقدماً دولاً أوروبية عدة تؤيده، كما قالت لـ “السفير” مصادر مطلعة على مداولات القمة. بقي في الموقف الأوروبي إمكانية النظر في “جميع الخيارات المتاحة إذا استمرت الفظائع الحالية”. ما أزيل من البيان، أصرت ميركل على ترديده في المؤتمر الصحافي، مثلما فعل الرئيس الفرنسي.
أما رينزي فكان موقفه واضحاً، حينما قال “جميعنا قلقون بشأن سوريا، ولذلك وافقنا على نصّ يدعو لاتفاق سريع وحقيقي ولعملية انتقال سياسي”، قبل أن يستدرك “لكن أعتقد أنه لن يكون هنالك أي معنى لإدخال (الحديث عن) عقوبات جديدة في هذه الوثيقة، فهي تقول إنه يجب استخدام كل نوع ضغط ممكن من أجل التوصل لاتفاق بشأن سوريا، ومن الصعب تخيّل كيف يمكن ربط ذلك بعقوبات جديدة ضد روسيا”.
مصادر أوروبية قالت لـ “السفير” إن رينزي تصرف داخل القمة “على أساس أنه يمتلك قضية قوية”.
وفق المصادر، حاجج رئيس الوزراء الايطالي وفق مبدأين، الأول أن أي عقوبات لن تُحدث تحولاً سريعاً في نهج موسكو، رداً على من تحدث عن أولوية الوضع الانساني. الثاني أنه “لا يجب استخدام العقوبات كلما انتقلنا إلى مسرح سياسي، فهناك عقوبات متصلة بأوكرانيا، وإذا فرضنا عقوبات بالنسبة لسوريا فماذا سنفعل حينما نتعامل مع ليبيا أو غيرها مثلاً، هذا يقوّض مصداقية أداة العقوبات”.
بعيداً عن ذلك الجدل، هناك من قدّم رأياً مباشراً. حينما سألت “السفير” المستشار النمساوي كريستيان كيرن رأيه بخيار المهادنة مع موسكو، رد مدافعاً من دون حرج “أعتقد ان التهدئة هي دائما البديل الأفضل”، قبل أن يضيف “لا يزال من المبكر جداً الحديث عن العقوبات، هناك قضايا عديدة مفتوحة على الطاولة، وأعتقد أن علينا التعامل مع كل هذا المشهد قبل نقاش العقوبات أو أي شيء مشابه”.
هناك من قدّم رأياً أكثر مباشرة، ويضيء على زاوية جدّ عملية. رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان قال رداً على “السفير” إنه يدافع عن مصلحة بلده: “لدينا نهج آخر، القضية هي أن العقوبات تسبب ضرراً أكبر للمجر أكثر مما تسببه للروس، وهذه هي المشكلة بالنسبة لنا”.
الخلاصة كانت المهادنة، بمساعدة موسكو طبعاً التي أطلقت إعلانات حسن النيات، مع سلسلة من الهدن الممكنة على المدى القصير قبل نضوج تفاهمات يمكنها وحدها إعلان هدنة طويلة. لكن هذا ليس كل شيء هنا. مصدر رفيع المستوى حضر اجتماع لوزان الأخير، بين موسكو وواشنطن وست دول اقليمية، قال لـ “السفير” إن الاوروبيين يقودون تغييراً في النهج الغربي تجاه الحكم في دمشق: “الوضع العالمي بدأ يتفهّم التعقيدات السورية، بدأ البعض يحاولون إجراء حوار مع الطرف السوري وتحديداً مع (الرئيس السوري بشار) الأسد لتسوية العقبات”، مشدداً على أن “هذا التحول يحصل بوضوح للمرة الأولى، هذا لم يكن موجوداً سابقاً وكان يعتبر خطاً أحمر لا يمكن طرحه أصلاً فضلاً عن المباشرة فيه”.
السفير