حلّ رمضان السادس ومعاناة السوريين تزداد. لم يستطع الشهر الكريم لمّ شمل العائلة حول المائدة، ولم يستطع أن يزيّنها بأفخر الأطعمة، وأقبل دون الطقوس التي اعتادها السوريون خلال السنوات التي خلت.
افتقد شهر الرحمة إلى الرحمة في قلوب التجار، بعد أن ارتفعت أسعار العملات الأجنبية في بداية الشهر الجاري ليصل الدولار الأميركيّ إلى 650 ليرةٍ سورية، ما أدّى إلى ارتفاع جنونيٍّ في أسعار السلع الغذائية، وبخاصّةٍ الأساسية منها، مع غياب الرقابة والمؤسّسات التموينية وشحّ مادة المازوت. بالإضافة إلى فقد الأمان بسبب تقصّد النظام السوري قصف الأسواق المزدحمة والتجمعات، ناهيك عن الأوضاع الأمنية المتردية. كلّ هذه الأسباب جعلت رمضان هذا العام بلا أجواء رمضانية؛ بلا ازدحامٍ ولا تسوّقٍ ولا سهراتٍ ولا تجوّلٍ لباعة المشروبات الشهيرة (العرق سوس، التمر هندي ..).
وخلت الموائد ليس فقط من الحلويات والمكسرات واللحوم والأسماك، بل من الكثير من أنواع الفواكه التي أصبحت حكراً على الأغنياء. وقد دفع ارتفاع أسعار المواد الأساسية جمعية حماية المستهلك التي تنشط في مناطق سيطرة النظام إلى إصدار تقريرٍ بيّن أن أسعار معظم المواد والسلع الغذائية تضاعفت منذ شهر رمضان الماضي، إذ ارتفعت أسعار بعض المواد بنسبة 50 في المئة ووصل بعضها الآخر إلى 460 في المئة.
وعن ذلك يحدثنا محمد (38 سنة)، أحد سكان مدينة جسر الشغور، قائلاً: «بلغ ثمن كيلو السكر 600 ليرةٍ بالتزامن مع انقطاعه من السوق لمدّةٍ طويلة، مما أدّى إلى ارتفاع ثمنه بعد إعادة طرحه. بينما وصل ثمن كيلو الشاي إلى 4 آلاف ليرة، وليتر الزيت النباتي إلى 1100 ليرة، وكيلو الأرز إلى 750 ليرة، وتتفاوت الأسعار من منطقةٍ إلى أخرى. وسبب الارتفاع ليس فقط الدولار، بل جشع التجار الذين يرفعون الأسعار مع تراجع الليرة ولا يخفضونها عند تراجع الدولار. والأهمّ هو غياب الجهات الرقابية والتنظيمية للسوق».
وكان الوضع الأمنيّ سبباً رئيسياً لغياب الطقوس الرمضانية عن مدينة إدلب والمناطق المحرّرة الأخرى التي يستهدفها الطيران السوريّ والروسيّ، وبخاصّةٍ الأسواق، ما يؤدي إلى وقوع المجازر كما في مجزرة مدينة إدلب في 4 حزيران الجاري، والتي راح ضحيتها 12 مدنياً وعشرات الجرحى إثر استهداف السوق الشعبيّ بعددٍ من الصواريخ الفراغية. الأمر الذي يدفع الأهالي إلى عدم الخروج من منازلهم أو تبادل الزيارات والدعوات على الولائم كما جرت العادة في السنوات السابقة، وخاصّةً في ريف المدينة حيث كانت تنتشر الولائم اليومية العامة في القرى والبلدات، لكن الوضع الاقتصاديّ والقصف عطلا هذه العادة.
وتعتمد غالبية سكان مدينة إدلب وريفها على بعض المحاصيل الزراعية مثل البقوليات والبرغل والقمح الذي بات مادةً رئيسيةً في التخزين، لأنه يدخل في صنع كثيرٍ من الأطعمة. ويعتمد السكان أيضاً على السلل الغذائية التي توزّعها المنظمات الخيرية -وتحوي بشكلٍ أساسيٍّ على الحبوب والسكر- كحلٍّ بديلٍ عما عجزوا عن تأمينه في شهر رمضان، علها تسدّ شيئاً من رمقهم وتوفر عليهم جانباً من قائمة المشتريات الضرورية. ولكن هذه المساعدات توزَّع على نسبةٍ ضئيلةٍ من السوريين، فلا تسمن ولا تغني من جوع.
حدثتنا أم عبد الكريم (41 عاماً)، وهي نازحةٌ تعيش مع عائلتها في مدينة إدلب: «هربنا من القصف والمجازر في ريف حلب الجنوبيّ، بعد رحلة نزوحٍ مستمرّةٍ من قريةٍ إلى أخرى بحثاً عن الأمان، ليستقرّ بنا الحال في مدينة إدلب التي تعيش هي الأخرى حالةً من عدم الأمان. يعمل زوجي بأجرٍ يوميٍّ لا يتجاوز ألف ليرة. وقد حرمنا ضيق الحال أموراً عدة، فأصبحت اللحمة حلماً بعد أن تجاوز سعر كيلو لحم الغنم 3800 ليرة. أقف عاجزةً أمام دموع أطفالي عندما يطلبون منّي أن أعدّ لهم الكبة أو السمبوسك أو ورق العنب، تلك الوجبات التي كانت تزيّن موائدنا، لكن ما باليد حيلة. أصبحنا نعتمد على المعكرونة والبرغل والعدس والمواد الأخرى التي توفرها لنا المنظمات الإنسانية، أو لأنها الأرخص في السوق والأقلّ تكلفةً في إعداد الطعام».
تلخص استغاثة سكان مدينة إدلب حال أكثر من خمسة مليون سوريٍّ يعيشون الشهر الكريم تحت قصف الطائرات والمدافع ومع وطأة الجوع والحصار وقصص الموت التي تتوالى، وحكايا الحرمان من أدنى مقوّمات الحياة والاستمرار.. التي يعيشها الكبار والصغار.
مريم أحمد
عين المدينة