يبدو أنّ الدور الروسي والإيراني في سورية يتشعّب أكثر فأكثر مع كل خطوة تخطوها هاتين الدولتين أو أحدهما في سبيل تثبيت مواقعهما في سورية، التي تمر بسيرورة تغيير ديمغرافي وثقافي كبيرين.
حيث لم يكتفِ الروس والإيرانيون بالتدخل العسكري والاقتصادي لدعم وحماية النظام السوري ومنع سقوطه، وإنما تعاده الأمر ليشمل الغزو الثقافي الناعم، الذي يشهد في الفترة الأخيرة حركة مريبة تظهر مدى خبث اللعبة التي تلعبها هاتين الدولتين، ليس للتأثير في شريحة معينة من الشعب السوري فقط، وإنما للتأثير في مستقبل سورية ككل، فالمتتبع للاتفاقيات الثقافية والتعليمية التي يوقعها النظام السوري مع الروس والإيرانيين يدرك مدى خطورة هذه الاتفاقيات، التي لا تقل خطورة عن الاتفاقيات العسكرية والأمينة والاقتصادية، والتي تربط مستقبل سورية بهاتين الدولتين.
فليس من منطلق حسن النية أو الحاجة التربوية أن يسعى الروس والإيرانيون لإدخال ثقافة المستعمر أو القوة الطامحة للهيمنة إلى البلد المستهدف، دون أن تكون هناك أهداف أخرى ترتجى، وليس من قبيل المصادفة أن تعلن روسيا عن نيتها لافتتاح فرع لجامعة موسكو في سورية وتقديم 500 منحة دراسية مجانية للطلاب السوريين، بعد أيام قليلة فقط من إعلان وزير التربية والتعليم الإيراني محسن حاجي ميرزائي، عن سعي بلاده لإدراج اللغة الفارسية كلغة ثانية في النظام التعليمي السوري أسوةً باللغة الروسية التي تم إدراجها منذ خمس سنوات في النظام التعليمي السوري كلغة اختيارية ثانية إلى جانب اللغتين الإنجليزية والفرنسية.
فما يقوم به الروس والإيرانيون في سورية، وبالتواطؤ مع النظام السوري، يمكن اعتباره حصيلة عمل مبرمج ومخطط، وليس وليد اللحظة، أو الآنيّة التي يقول البعض إنها تفرض ظروفها، إنما هي أفعال هادفة وشديدة التركيز، وقد أمضوا الكثير من الزمن، وأنفقوا الباهظ من المال وبسخاء إلى أن وصلوا إلى إظهار نُظمهما الخفيّة التي تُنفَّذ بهدوء عالٍ لزرع ثقافتهما ولغتهما في أذهان الناشئة من الأطفال والشباب السوريين.
سعت إيران التي تمزج بين مشروع تصدير الثورة الذي نادى به الخميني، وبين عقيدة الجهاد والغزو، وبين التبشير ونشر التشيع، إلى تعزيز نفوذها العسكري بنفوذ ثقافي، من خلال افتتاح فروع لعدد من الجامعات الإيرانية، كجامعة “تربية مدرس”، وجامعة “المصطفى” |
فمن جهة تأتي هذه الخطوات في إطار محاولات الغزو الثقافي التي يحاول من خلالها الروس والإيرانيون من فرض نموذجهما الثقافي والتعليمي القائم على تعليم اللغة وتعميم الثقافة، فبعد أن نجحت روسيا وإيران من فرض نفسيهما عسكريا واقتصاديا، تحاولان الآن فرض نفسهما تعليمياً وثقافياً من خلال افتتاح المدارس والجامعات وفرض تعلم اللغتين الروسية والفارسية، وتقديم المنح المجانية للطلاب السوريين، خاصةً وأنّ التعليم يعتبر أداة التغييّر الأولى في المجتمعات، ويمكن استخدامه أيضاً كنوع من الغزو الثقافي الذي يهدف إلى محو ذاكرة جيل بأكمله.
ومن جهة أخرى يمكن وضع هذه الخطوات في إطار المحاولات الهادفة لإدخال ثقافة المستعمر أو القوة الطامحة للهيمنة على البلد المستهدف، من خلال تنشئة جيل مأدلج تابع لها فكرياً عبر زرع ولاء ثابت يتغلغل في مفاصل مؤسسات الدولة والتأسيس لوجود دائم على الأراضي السورية يتخذ من “القوة الناعمة” وسيلة له، فروسيا التي تدخلت عسكرياً في سورية في خريف عام 2015، لم تتدخل لمجرد انقاذ النظام ومنع سقوطه، لكن تدخلها أتى في إطار خطة مدروسة أتت في إطار حسابات استراتيجية كبيرة، أخذت بعين الاعتبار تحقيق مجموعة من المصالح والأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية.
فإذا نظرنا إلى المشهد من بعيد، نرى أن روسيا من خلال سياساتها العسكرية والاقتصادية والثقافية تؤسس لنفسها أرضية صلبة للبقاء في سورية لأطول وقت ممكن، لذا كان من الطبيعي جداً وجود قسم ثقافي ضمن مركز المصالحة الروسية في قاعدة حميميم العسكرية يديره ضباط روس مهمتهم متابعة كل ما يتعلق بالأنشطة الثقافية الروسية في سورية ورفع تقارير بها لقادتهم في موسكو، ومن الطبيعي أيضاً أن تفتتح روسيا أول مدرسة روسية لها في “الشرق الأوسط” في دمشق، وأن تقحم اللغة الروسية في النظام التعليمي السوري، وأن تفتتح فرع لجامعة موسكو في دمشق، وأن تستقطب مجموعة من الأطفال السوريين الصغار وترسلهم لروسيا لتحويلهم مستقبلاً إلى قوة مؤثرة ومتنفذة في المجتمع السوري، فما تقوم به روسيا حتماً يصب في مصلحتها بالدرجة الأولى ويزيد من نفوذها في المنطقة، والذي اعتبره “ديمتري بولغاكوف” رئيس اللجنة الفرعية في مجس الدوما الروسي بأنه “استثمار كبير في مستقبل سورية”.
في حين سعت إيران التي تمزج بين مشروع تصدير الثورة الذي نادى به الخميني، وبين عقيدة الجهاد والغزو، وبين التبشير ونشر التشيع، إلى تعزيز نفوذها العسكري بنفوذ ثقافي، من خلال افتتاح فروع لعدد من الجامعات الإيرانية، كجامعة “تربية مدرس”، وجامعة “المصطفى”، وجامعة “الفارابي”، وجامعة “آزاد إسلامي”، وكلية المذاهب الإسلامية، إلى جانب نشر تعليم اللغة الفارسية في مراكز التعليم التابعة للمستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، وقسم تعليم اللغات الأجنبية في جامعة دمشق، ومركز تعليم الفارسية في الكلية العسكرية السورية، لذا كان من الطبيعي أن يزيد النشاط التبشيري الشيعي في سورية، وأن نرى المواكب الكربلائية ومسيرات اللطم في أحياء وشوارع دمشق ودير الزور وحلب، وأن يتوسع انتشار المراكز الثقافية والحوزات العلميّة المتخصصة بتدريس الخرافة وضخ الحقد الطائفي في صدور الشباب والصغار، لتكون كالأفاعي ناعمة الملمس لكن العطب في أنيابها.
من هنا يمكن القول إنّ الملامح السابقة جميعها واردة ضمن الأهداف الروسية والإيرانية، والكامنة وراء فكرة إنشاء هذه الجامعات في سورية، وفرض تعليم اللغتين الروسية والفارسية على طلاب المدارس والجامعات، فيوماً بعد يوم تكشف كل من روسيا وإيران عن المزيد من ممارساتهما لمحاولة طمس الهوية السورية وزيادة التغلغل في النسيج السوري، والذي لا يمكن اعتباره مجرّد طموح لغزو ثقافي مغلف بالعسل، بل يمكن اعتباره بأنه حصان طروادة يبنيه الروس والإيرانيون في سورية بصبر كاستثمار كبير وخبيث في مستقبل سورية.
بشار النرش / كاتب وصحفي سوري
نقلا عن مدونة الجزيرة