الانتخابات لم تكن سوى تظهير أخير للمهزلة، ذاك أننا حيال ما هو جوهري أكثر منها، حيال قبول العالم ببشار الأسد، وما ينطوي عليه هذا القبول من قسوة…
خطاب “النصر” الذي ألقاه بشار الأسد في أعقاب “فوزه” بمهزلة الانتخابات الرئاسية السورية يليق بالرئيس المنتخب، وما رتابته المتلعثمة سوى جزء من مشهد المهزلة التي شهدتها سوريا الأسبوع الفائت. فالرئيس، وفي أعقاب فوزه، أعطانا درساً عن الفارق بين الثورة والثور، ومارس على نحو أكثر بلادة هوايته العتيدة والرتيبة في شرح فروقات بين مفاهيم أقلعت المدارس الابتدائية عن تدريسها لتلامذتها. لكن الرئيس المنتخب شحنها بقدر من نزق الخاسرين لا الفائزين، ذاك أن الفائز حقاً في الانتخابات غالباً ما يبدي، وعلى سبيل الخبث، قدراً من السعة مهمتها توسيع تمثيله ليشمل الخصوم! لكن الرئيس، وكما قال قبل سنوات، يريد مجتمعاً “منسجماً”، وما الانتخاب سوى تقنية طرد لكل من لم ينتخب الرئيس. أما الفراغ الهائل الناجم عن طرد معظم السوريين من دولة بشار الأسد، فتتولى رأبه الأرقام العجائبية لعدد المصرح عنهم بأنهم انتخبوا الرئيس! إنهم نحو 14 مليون سوري من أصل أقل من 10 ملايين ناخب من المفترض منطقياً أنهم موجودون في ساحات الانتخاب!
لا بأس إذاً، فهذا دأب النظام مذ استولى على السلطة في سوريا، لكن الذهول في أعقاب الواقعة يفوق ما كان يعقب الانتخاب في الدورات السابقة، فالمهزلة هذه المرة تفوق أسلافها انكشافاً، ولا شك في أن لهذا الانكشاف وظيفة. فبشار الأسد يريد أن يقول إن بإمكانه إجراء انتخابات مهزلة، وإنه لن يقدم على أي تنازل لأي مطالب فيه، وهو استعان لإيصال هذه الرسالة بمراقبين من قبل مخدومه الروسي، وتولى مخدومه الآخر، أي الإيراني، توظيف ماكينته الإعلامية للاحتفال بـ”الديموقراطية المشرقية” التي تفوق ديموقراطية الغرب في صدق تمثيلها الشعوب الممانعة، بحسب ما قال وزير خارجية النظام.
ما يخيف هنا هو أن الغرب الذي عبر عن عدم اقتناعه بهذه الانتخابات عاد، وإن على نحو متفاوت، إلى التعامل معها بوصفها أمراً واقعاً. فرنسا مثلاً سمحت بالاقتراع في السفارة السورية في باريس، وهي وإن كانت لوحدها من فعلها، فهي خطوة ممهدة للعودة إلى ثقافة القبول، وأوروبا التي تضيق باللاجئين السوريين لم تعد برلماناتها محصنة من احتمالات التطبيع مع نظام سبق أن اعتبرته نظام قتل غير قابل للإصلاح.
لكن حتى هذه القابلية لم يستقبلها “الرئيس المنتخب” بما تقتضيه من خطوات تمهد للتطبيع مع النظام. بشار الأسد قال ها أنا ذا، لم أتغير قيد أنملة، وإذا أردتم قبولي، فعليكم أن تقبلوا بمزيد من المهازل الانتخابية. الرجل لم يخف وجهه، وقالها بمنتهى الوضوح. وهو فعل ذلك بموازاة مفاوضات أميركية- إيرانية في فيينا، وفي أعقاب “انتصارٍ” للمحور في غزة، وهو نال تبريكات من حليفيه اللبنانيين ميشال عون وجبران باسيل، ناهيك بتوزيع “حزب الله” الحلوى في القرى الشيعية في لبنان. وقالها أيضاً لدول الخليج التي استأنفت التطبيع مع نظامه وفتحت السفارات السورية في عواصمها أمام “المقترعين” السوريين!
أما رسالة الانتخابات للسوريين فلا جديد تحمله. بشار الأسد لا يريد عودة نحو سبعة ملايين سوري، ذاك أنهم، بحسب خطابه الأخير، خونة ولا سبيل لتسوية أوضاعهم، ومن بقي في سوريا عليه أن يتعايش مع صوره عائمة فوق جثث أكثر من نصف مليون سوري.
الانتخابات لم تكن سوى تظهير أخير للمهزلة، ذاك أننا حيال ما هو جوهري أكثر منها، حيال قبول العالم ببشار الأسد، وما ينطوي عليه هذا القبول من قسوة، ولكن أيضاً ما يعكسه من هشاشة نظام القيم الذي صدرت عنه دعاوى كانت أوهمتنا أن العالم لم يعد يتسع لنظام البعث!
نقلا عن وكالة درج