ليس النشطاء المطالبون بالتغيير والديمقراطية فقط من يستفيدون من أدوات الاتصال والتكنولوجيا الحديثة التي ساهمت في اندلاع الاحتجاجات، بل لقد تعلمت الدول الاستبدادية أيضا استخدام الأدوات الرقمية لتعزيز سلطاتها وصلاحياتها وتعزيز قدراتها في التحكم والسيطرة وقمع المعارضين.
وفي تقرير مشترك لصحيفة فورين أفيرز الأميركية أعده أكاديميون مختصون بالعلوم السياسية في الولايات المتحدة هم أندريا كيندال تايلور، وإيريكا فرانتز، وجوزيف رايت، يذكّر هؤلاء الكُتاب بجهاز أمن الدولة (شتازي) في ألمانيا الشرقية إبان الحقبة الشيوعية الذي كانت لديه قدرة كبيرة على مراقبة الأفراد والسيطرة على تدفق المعلومات، وبحلول عام 1989، كان لدى الجهاز السري ما يقرب من مئة ألف موظف إضافة لعدد قد يصل لمليوني مخبر في بلد كان عدد سكانه 16 مليون نسمة فقط.
واستفاد شتازي من مراقبة الهواتف، وتسلل للحركات السياسية وأبلغ المخبرون عن العلاقات الشخصية والعائلية للأفراد المراقبين، وتم تعيين ضباط في مكاتب البريد لفتح الرسائل والطرود البريدية لعقود من الزمن، واعتبر الجهاز الأمني -ذو السمعة السيئة- نموذجا لكيفية استخدام النظم الاستبدادية لتقنيات القمع والتحكم المتقدمة.
ولكن في أعقاب سقوط جدار برلين في نوفمبر/ تشرين الثاني 1989 وانتهاء الحرب الباردة، لم تعد الأجهزة من ذلك النوع قابلة للاستمرار، وفي مطلع الألفية الجديدة وعدت التكنولوجيات الجديدة -بما في ذلك الإنترنت والهاتف الخلوي- بتمكين المواطنين والسماح للأفراد بالوصول إلى المعلومات وإمكانية إقامة روابط وبناء مجتمعات جديدة.
سذاجة الأمل
ويقول كتاب التقرير إن هذه الرؤية المأمولة بعالم جديد أكثر ديمقراطية كانت ساذجة، وبدلاً عن ذلك وفرت التكنولوجيا الجديدة ذاتها أدوات للحكومات تستخدمها في المراقبة والحفاظ على السلطة، وعلى سبيل المثال، تسمح التقنيات المدعومة بالذكاء الاصطناعي للمستبدين بأتمتة مراقبة وتتبع معارضيهم بطرق أقل تدخلاً بكثير من المراقبة التقليدية.
وإضافة لذلك لا تعمل هذه التكنولوجيا على تمكين الأنظمة الاستبدادية من تعزيز المراقبة والسيطرة فقط، وإنما تغير قناعات الناس وسلوكهم، فمن دون شراء برنامج حاسوبي لمراقبة الناس وتتبع حركتهم ورسائلهم النصية وهواتفهم ومراقبة مواقع التواصل الاجتماعي -بمجرد أن يعرف المواطنون أن كل هذه الأشياء تحدث- فإنهم يغيرون سلوكهم دون أن يلجأ النظام إلى القمع الجسدي.
ويقول الكتاب الثلاثة إن الربيع العربي والإطاحة بحكام مصر وليبيا وتونس واليمن مثل ذروة الأمل بعالم جديد وحر تعززه التكنولوجيا الحديثة، حيث سهلت وسائل التواصل الاجتماعي إسقاط الطغاة الذين حكموا هذه البلدان، بحسب التقرير.
وحينها اعتقد كثيرون أن المستبدين لا يمكنهم إبقاء السلطة في أيديهم مرة أخرى بسبب التكنولوجيا التي جعلت أصوات الناس مسموعة وجعلت الوقوف في وجه الأنظمة القمعية ممكنا، لكن ما حدث هو أن “الأنظمة الاستبدادية تطورت وتبنت التكنولوجيا لإعادة تشكيل وصنع الاستبداد في العصر الحديث”، وتجنب الوقوع ضحية للتقنيات الجديدة مرة أخرى.
عصر الاحتجاج
ويقول التقرير إن العصر الرقمي غيّر الطريقة التي تعمل بها الأنظمة الاستبدادية، إذ أدت التكنولوجيات الجديدة والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي إلى إزالة العقبات التي تعترض التنسيق والحشد مما يسهل على المواطنين العاديين تعبئة الجماهير وتحدي الحكومات القمعية.
ونجح العديد من هذه الحركات في إسقاط الأنظمة الاستبدادية، بحسب التقرير، وبين عامي 2000 و 2017، أطاحت الاحتجاجات بعشرة أنظمة استبدادية أو 23% من الأنظمة السلطوية الـ 44 التي سقطت خلال هذه الفترة، في المقابل فقد 19 نظامًا استبداديًا آخر السلطة من خلال الانتخابات.
وعلى الرغم من أن عدد الأنظمة التي أطيح بها من قبل الانتخابات يمثل ضعف الأنظمة التي أسقطتها الاحتجاجات في الفترة نفسها، فقد نجم العديد من الانتخابات عن حملات جماهيرية واحتجاجات واسعة سبقتها، بحسب بيانات مشروع التعبئة الجماهيرية.
ويمثل ارتفاع دور الاحتجاجات تغيرا وتحديثا كبيرا للأنظمة الاستبدادية، وتاريخيا شكلت الانقلابات التي قامت بها النخب والضباط العسكريون أكبر تهديد للدكتاتوريات، إذ أطاحت الانقلابات بين عامي 1946 و 2000 بما يقرب من ثلث الأنظمة الاستبدادية الـ 198 التي انهارت في تلك الفترة بينما كان دور الاحتجاجات الشعبية في الإطاحة بالأنظمة أقل بكثير ومثل فقط 16% من نسبة الإطاحة بأنظمة استبدادية، بحسب التقرير.
وفي المقابل، أطاحت الانقلابات بحوالي 9% من الدكتاتوريات التي سقطت بين عامي 2001 و2017، في حين أدت الحركات الجماهيرية إلى الإطاحة بحوالي ضعف الرقم من الحكومات الدكتاتورية، وبالإضافة إلى الربيع العربي، أدت الاحتجاجات إلى الإطاحة بالدكتاتوريات في بوركينا فاسو وجورجيا وقرغيزستان، لتصبح حاليا أهم تحد تواجهه الأنظمة الاستبدادية في القرن الـ21.
تحولات الاستبداد
ويقول التقرير إن الدكتاتوريات لا تستخدم التكنولوجيا الحديثة لقمع الاحتجاجات فحسب، ولكن أيضا لتعزيز أساليب السيطرة القديمة، أي أنها تستخدم “القمع الرقمي” لتعزيز أشكال القمع التقليدية في الحياة الحقيقية، ولا سيما تعذيب وقتل المعارضين.
وتقوم تقنيات “القمع الرقمي” بتحديد من الذي يجب أن يتم اقتحام بيته أو اعتقاله وإلقائه في الزنزانة من قبل السلطات القمعية، وهذا الاستهداف المحدد للمعارضين يقلل من الحاجة إلى اللجوء إلى القمع العشوائي، والذي يمكن أن يؤدي بدوره إلى ردة فعل شعبية وانشقاقات بين النخبة، بحسب التقرير.
ويعد تطور المراقبة التي تعمل بنظم الذكاء الاصطناعي أهم تطور في الاستبداد الرقمي، إذ فتحت الكاميرات عالية الدقة، وتقنيات التعرف على الوجوه، والبرمجيات الخبيثة للتجسس، وتحليل النص الآلي، ومعالجة البيانات الكبيرة، مجموعة واسعة من الأساليب الجديدة لمراقبة الناس، وتسمح هذه التقنيات للحكومات بمراقبة المواطنين وتحديد المعارضين المحتملين في الوقت المناسب، وأحيانًا حتى بشكل استباقي.
نموذج الصين
ويضرب التقرير مثلاً بالصين التي تفوقت في هذه التكنولوجيا القمعية، ويجمع الحزب الشيوعي الصيني -بحسب التقرير- كمية لا تصدق من البيانات عن الأفراد والشركات بما في ذلك الإقرارات الضريبية، والبيانات المصرفية، وتواريخ الشراء، والسجلات الجنائية والطبية، ثم يستخدم نظام ذكاء اصطناعي لتحليل هذه المعلومات وعمل نظام تقييم اجتماعي تسعى من خلاله السلطات لتحديد أصحاب السلوك المقبول، بينما يصبح الأفراد أو الشركات المصنفون باعتبارهم “غير جديرين بالثقة” محرومين من مزايا حكومية مثل الإيجار دون إيداع وحقوق مثل السفر بالطائرة أو استخدام السكك الحديدية.
وفي إقليم شينغيانغ -حيث تحتجز الحكومة الصينية أكثر من مليون من الإيغور في مخيمات “إعادة التأهيل”- يبقى أولئك الذين ليسوا في المخيمات عالقين في مدن وأحياء سكنية ذات بوابات مزودة ببرامج التعرف على الوجه، ويحدد النظام الإلكتروني من الذي يمر ومن لا يسمح له، وكذلك من سيحتجز على الفور.
وقامت السلطات الصينية بجمع قدر كبير من البيانات عن سكانها الإيغور، بما في ذلك بيانات الهواتف المحمولة والاتصالات والبيانات الوراثية ومعلومات عن الممارسة الدينية وغيرها من البيانات التي تجمعها في محاولة لدرء الأعمال التي تعتبر ضارة بالنظام العام أو الأمن القومي.
وتتيح التقنيات الحديثة للمسؤولين الصينيين كذلك سيطرة أكبر على أعضاء الحكومة، وقياس مدى تقدمهم في تحقيق أهداف النظام وطرد المسؤولين ذوي الأداء الضعيف بالنسبة لمعايير الحزب الشيوعي الحاكم.
المصدر : فورين أفيرز,الصحافة الأميركية