الاحد 1-3-2015
مع الانتهاء من كتابة هذا المقال، تكون قناة “الدنيا” السورية قد انتهت من عرض الحلقة الأخيرة من مسلسل “أصحاب الكهف”، وهو مسلسل إيراني ديني يُصوّر قصةً من قصص “القرآن الكريم”، هي قصة “الرجال الذين ناموا في كهف جبل أنجيلوس لمدة 300 عام”.
ليس في الأمر ولا في هذا العرض مأثرة أو فرادَة، وغياب الفرادَة تلك يعود برأينا إلى سببين، أولهما يتلخص في أن القناة الفضائية المذكورة لم تتوقف للحظة عن عرض برامج ومسلسلات سورية وغير سورية، وبشكل يومي واعتيادي مكثّف، إيحاءً منها لجمهورها بأن “سوريا بخير” وأن لا شيء يحدث في البلاد. فإنْ كُسر الروتين و”حدث شيء ما” وفقاً لها، دأبَ المحللون السياسيون على شاشتها وعلى شاشات النظام السوري ومحطات لبنانية دائرة في ذات الفلك، على إعادته إلى مساره الطبيعي بصفته “جزءاً من حرب الجيش السوري الباسل على الأزمة والمؤامرة الكونية”. فكيف والعرض هذه المرة إيراني، ونعني المسلسل المذكور !! وهو المسلسل الذي “يكفي” لتعزيز فكرة “سلامة سوريا” استناداً إلى “التحالف” بين النظامين السوري والإيراني. وثاني الأسباب، معطوفاً على الأول، هو الذي يلغي ذلك الجدال والسجال حول تفسير قصص “أهل الكهف” و”أصحاب الأخدود” وغيرها، جاعلاً إياهاً واقعةً حَرفيةً حاصلة بحذافيرها، إذا ما قورنت بسرديات إعلام النظام السوري الذي تمكنت منه أساطيرٌ وخوارق ومعجزات يومية سبقت تلك القصص بكثير.
قد تبدو المسألة عارضة أو طبيعية، متمثلة بعرض مسلسل إيراني على شاشة سورية، وبخاصة في ظل تجاوُر هذا المسلسل مع الضخ والتزييف الإعلامي الطبيعي على قناة “الدنيا” وقريناتها لواقع الحال على الأرض، وتصاعُد الاحتفاء بالدور الإيراني الداعم للأسد على المحطات السورية الرسمية، وفي الوقت الذي تقول لنا فيه الوقائع أن ما يحدث على الأرض في كل مكان من سوريا ما هو إلا دعم من الأسد للدور الإيراني في سوريا وليس العكس، مع التحاق الأول بالثاني. كل ذلك كان يمكن أن يكون طبيعياً، لولا أن القناة إياها ثابَرت منذ أشهر على عرض مسلسل إيراني يتلوه آخر أيضاً، من مسلسل “يوسف الصديق” الذي عرفته شعوب هذه المنطقة أولاً عبر شاشة “المنار”، مروراً ب”مريم المقدسة”، وأخيراً وليس آخراً مسلسل “أصحاب الكهف”، من دون أن يكون ثمة ما يقدم ضمانات بألا يكون المسلسل التالي على فضائيةٍ تَنطِق، وإن بشكل غير معلن، باسم النظام البعثي “العلماني” ، هو مسلسلٌ مستوحىً من حادثة “الطّفّ”، أو سرديات خمينية تهجو الشّمر بن ذي الجوشن وزياد بن أبيه في الألفية الثالثة، هجاءً يخدم قتال عسكرها في درعا وحلب دفاعاً عن “العتبات المقدسة”.
تتجاور المسلسلات الإيرانية ومعها الخطاب الرسمي السوري، الذي يتحدث بدرجة كبيرة جداً بلسان حال النظام الإيراني، مع تصاعد نفوذ هذا الأخير على الأرض السورية. فإذا ما رجّحنا صحة احتمال ابتلاع الإيرانيين ما تبقى من “سوريا الصغرى” كما يسميها البعض، وغياب أي حيّز أسدي في تلك ال سوريا، اللهم إلا ذلك القفص الاختياري الذي يقبع فيه بشار حافظ الأسد، بات مستقبل الإعلام الرسمي السوري مرتهناً في القادم من الأيام لبرامج خمينية وعدسات إيرانية، تُصوّر الموظفين الحكوميين السوريين وهم يخرجون “طوعاً” في “مسيرات جماهيرية حاشدة” بمناسبة ذكرى “الثورة الإسلامية في إيران”، عوضاً عن “ثورة البعث المجيد” أو “الحركة التصحيحية المباركة”. وغني عن القول أن هذه الأخيرة قد “قادها وفجّرها الرفيق المناضل حافظ الأسد” قبل أن يفجر الخميني ثورته ومجتمعه والمنطقة بعدة سنوات.
إلا أن قراءة دلالات التغوّل الإيراني على الشاشات السورية وعلى الأرض السورية، لا تمنع التمعّن قليلاً في تفاصيل تلك الدراما الدينية المعروضة، بل ربما التقت مع تلك الدلالات المتعلقة بالواقع السوري في مكانٍ ما منها.
وعلى هذا الصعيد، نلحظ تفاضلاً وتمييزاً في التعامل مع “تجسيد الأنبياء والقديسين والأئمة” في الأعمال الدرامية، فمرّة لا يتم تجسيد أي من هؤلاء، وهو ما دأبت عليها المرجعيات السنية والشيعية في العالم الإسلامي، كما حصل في فيلم “الرسالة” لمصطفى العقاد، ومرة ثانية يُحاط وجه النبي أو الإمام ب”هالة من نور”، وفي ثالثة يتم إسناد الدور كاملاً إلى ممثل ليجسد الشخصية من دون أي حجب لملامحها، كما حدث في مسلسلي “السيد المسيح” و”يوسف الصديق” الإيرانيين، وهذا الأخير وُوجه بحملة رفض وإدانة كبيرة ضده من قبل عدد من المؤسسات والمجامع الفقهية القريبة من الأزهر.
وعليه، ومن دون أن نكون معجبين بتلك المفاضلات أو ذلك المنع وعدم التجسيد، يخيل لنا للحظة أن المسلسلات الإيرانية وبعض المسلسلات الدينية التاريخية غير الإيرانية، قد خطَت خطواتٍ على الصعيد الديني التاريخي كَسرت فيه، وإن شكلياً وتلفزيونياً فقط، جدار الوقوف على عتبات تصوير شخصية ما، بعد منعها تصوير تلك الشخصية وأنسنتها سابقاً. هكذا، يبقى “التابو الدنيوي الحالي” أكثر قدسية بما لا يقاس من المسلسلات والعروض التلفزيونية الآنفة الذكر المعنية ب”التابو الديني الدائم”. ودائماً، ثمة مقدسات دنيوية وآلهة بشرية في هذه المنطقة تتوازى مع عالم الغيب والسماء في تحديد تخوم ومناطق لا يجوز المساس بها أو تصويرها. وفي الثورات والحروب، تقع القداسة تلك على المحك، فإما أن تستمر على ركام الجثث والأشلاء، أو تنهار مع الهزيمة المحتملة للآله -البشر ذاك.
يَذكر التاريخ أن الامبراطور الياباني “هيروهيتو” قد تخلى عن “مقامه الإلهي” عام 1945 بعد هزيمة اليابان أمام الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ، وهو المقام الذي جعل من الامبراطور لقرون طويلة “سليل آلهة الشمس” بالنسبة للشعب الياباني. وتعتبر الأسطورة اليابانية أن يوم تتويج الامبراطور “جينمو” هو: تاريخ نشأة العالم. استطراداً، إذا كانت بداية حكم حافظ الأسد هي تاريخ نشأة “سوريا الأسد”، بصفتها عالماً منعزلاً عن عالم اليابانيين وباقي شعوب الأرض، وطالما أن ليس ثمة ما يوحي بأن ابنه بشار سيكون معنياً بالتخلي عن مقامه الآلهي أمام عبيده ومريديه على أنقاض الحرب السورية، التي افتعلها إجراماً وبطشاً بالسوريين.. فهل سيكون من حلٍّ في سوريا يُنزل الأسد من “عليائه”، سوى ذلك الحلّ الذي يفضي به إلى أن يغادر مملكته ومملكة أبيه نهائياً من دون أن يواجه “شعبه”؟ نقول ذلك من دون أن نغامر في الطموح والحلم بأن تكون سوريا ذات يوم “ياباناً”، بل ربما “لبناناً”، في أحسن حالاتها، بعد كل ما حصل ويحصل.
وبانتظار خروج “الامبراطور السوري” قسراً، من دون قنابل نووية على مدنٍ تكفّل هو بتدميرها عبر سلاح الجو والبرّ التابع له، سيكون ثمة متسع من الوقت ومتسع من المسلسلات الإيرانية وقصص التاريخ، منذ اكتشاف النار مروراً باختراع الكتابة، وانتهاء ب”سوريا الأسد”
عبد الله أمين الحلاق – المستقبل